أستاذن الدم الفلسطيني اذ حين يتقدم الدم فليس للحبر سوى ان يتراجع, ولحظة تتقدم النار, فما على الصقيع سوى ان يمضي, قالها ولم يمضِ.
آمن بالفكرة والموقف، فاضل لدرء الخدعة رفع يديه شاكراً راضياً, معارضاً رافضاً, فرض على عصره سماته, طبع سماته متشددا في مواصفاته, اعطى وأجزل لامته من الخليج الثائر الى المحيط الهادر, انتظر الاتصال المقدس مع الأنهار التي توهم البعض انها جفت واستحالت الى مستنقعات او انها دخلت بيت الطاعة.
الراحل خالد محادين واجه الغيء بالوعي, قارع الحماقة باللباقة, صارع الوهم بالعلم, حارب الخيال بوضوح المقال, قلمه مسبار لمشاعر الناس ومصباح يشق طريق العتمة.
قال لي يوماً لم يعد الزهايمر حكراً على كبار السن,المنادين بهوياتهم الجهوية ناقصة, اذا لم تؤكدها قولاً وفعلاً الهوية القومية.
حفظنا من بعده الارض بتتكلم عربي, خلي سلاحي صاحي, يا حبيبتي يا مصر, سوريا يا حبيبتي, مصر التي في خاطري, ضجر من غناء باصات النقل العام, وردد أغار من نسمة الجنوب, وتسأل عما يفعله أصحاب المهنة واللغة وسط زحام المتطفلين.
تحدى الظلام بالشمس, نشأ على تشجير الحياة بالاخضرار, زرع الوجدان بالزهر, بث حنايا القلب لمن يستحق الانحناء, وضع بريق النجوم مصابيح, قابضا على جمر الهدى يحيك قماشة الود دون كلل او ملل.
خالد لم يأت من بيت أو أسرة جاء من وطن وأمة حملت رسالة خالدة، اختار له والده اسمه من جانب مرقد العظيم خالد بن الوليد, واختار لبكره اسم "سنان" ولم اشاهد من يومها ابو سنان دون رمح أو قلم أو ورق أو كلمات خاض معاركه كلها.
لم يكتب خالد مقالات بل وصايا, عهدا سنضمها ونغمض أعيننا عليها, فالقلم الذي كتبه به لم يكن من خشب, مسدس محشي بالرصاص مبصراً لم يخطئ هدفه, ووعداً نقطعه على حزن أن نبقى أوفياء لرجل حمل عنوان كتابه "لا أملأ قلمي بحبر الآخرين", لرجل لم يساوم وهو يكتب بلحمه ودمعه و حبره ودمه و فروسيته و شهامته.
جال خالد في مدن الأمة, نقش على الأرض وزخرف الفضاء, في المكان عزف سمفونيتيه و الألياذه الأسطورة الخالدة "بغداد التي تركناها آخر مرة مساحة كف يخترقها نهران, ومساحة زاوية في آخر الزقاق, تضم عاشقين يختاران اكثر الأمكنة تحت الضوء لكي لا يبصرها الآخرون".
وتسأل خالد اين بوصلة سوى أطفال فلسطين تدلنا على الموقف الصعب؟!, واطفال من السودان يواجهون في زمن التخمة العربية جوع الجوع, وأطفال من مصر انتعلوا الأرض الطيبة واكتسوا بالصبر الجميل.
وصرخ خالد ثمة كثبان بين أطفالنا و بين فوهات بنادق الغزاة, ثمة جبال و أودية بين الذين ما خانوا الوطن وبين من خان الوطن وأنفسهم.
أيها الراحل العظيم, أيامنا تمر ثقيلة, كالرحى على الصدور, لا تدري ريحها كيف و متى تهب, تجعل المآقي ماكرة بالدمع السخين, القلوب متعبة كالهم الطويل, وأيام نهارها هاجرة شمسه وكئيبة غيمه.
مع الفقدان, الإيمان وحده قادر أن يجعل من الألم مخرجاً ومن الأمل موئلاً, عزاؤنا أن من ذهب ذهب مطمئناً وخالد النفس, ولنا من آياته الصبر, ومن آيات الذكر وكيف يشكرون, ومن آيات الفكر وكيف يفكرون.
أبو سنان عاش على رمل الصحراء حمل رمال أمته, اعتلى صهوة الجياد, نخلة سقطت في بستان الصحافة ... لك الرحمة ولنا العزاء.