تأمّل هذا المشهد جيدًا: طفل لم يُكمل عامه الأول، يُرمى في الهواء من قِبل والده أو والدته، ويضحك دون خوف، مطمئنًا إلى أن الأيدي التي رمته هي ذاتها التي ستمسك به.
لم يتكلم بعد، ولم يُدرّب على اللغة، لكنه قرأ الطمأنينة في وجه من أمامه.
في المقابل، لو قوبل هذا الطفل بنظرة جامدة، أو حاجبين معقودين، أو عبوس غير مفسَّر، لأجهش بالبكاء فورًا. فملامح الوجه، قبل الكلمات، هي أولى وسائل التواصل بين الإنسان والعالم من حوله.
ومن هنا تبدأ الحكاية التربوية…
في البيئة التعليمية، تشكّل تعابير الوجه جزءًا أساسيًا من أدوات التعليم والتواصل. فالمعلم لا يعلّم بالكلمات وحدها، بل بنظراته، وتعبيرات وجهه، وانفعالاته الصادقة التي تُرشد الطالب، وتدفعه، وتمنحه الثقة أو التنبيه.
الطالب، في كثير من الأحيان، لا يحتاج إلى جملة كاملة ليعرف إن كانت إجابته صحيحة، يكفيه أن يرى ابتسامة رضا، أو نظرة تعجّب، أو حركة حاجب خفيفة، أو غمزة خفية.
بل إن بعض المعلمات يملكن قدرة على إدارة الصف وتحفيز التعلّم فقط من خلال تعابير الوجه، دون الحاجة إلى رفع الصوت أو استخدام الأساليب التقليدية.
لكن ماذا لو غابت هذه التعابير؟ ماذا لو أصبحت الوجوه جامدة، والملامح مفرّغة من الحياة؟
هنا ندخل إلى ما يشبه “عصر التعليم البارد”، حيث يصبح التواصل الإنساني مختلًا، وتفقد البيئة الصفية دفئها.
إن انتشار استخدام حقن البوتوكس في أوساط بعض المعلمات يطرح إشكالية تربوية حقيقية، إذ تؤثر هذه الممارسات مباشرة على أداة التواصل غير اللفظي الأكثر تأثيرًا: الوجه.
المعلمة التي تفقد القدرة على رفع حاجبها، أو تقطيب جبينها، أو الابتسام بشكل عفوي، تشبه في أثرها التربوي جهازًا آليًا – روبوتًا – يتحدث ببيانات منظمة لكنه يخلو من المشاعر.
ومهما بلغ الذكاء الاصطناعي من تطوّر، فلا يمكنه أن يُقنع طالبًا بأنه “مفهوم ومحبوب” إن لم يُشعره بذلك وجهًا لوجه.
الطالب لا يتعلّم من المعلومات فقط، بل من الدفء الإنساني، ومن التفاعلات الوجدانية التي تبني جسور الثقة بينه وبين معلمه أو معلمته.
ولذلك، فإننا نواجه اليوم تحدّيًا يتجاوز الجانب الجمالي أو المظهري، ليمسّ جوهر الرسالة التربوية.
فهل نسمح بتحويل وجوه المعلمات إلى شاشات جامدة لا تُبدي ولا تُخفي؟ وهل نرضى بأن يحلّ “الصقيع العاطفي” محل التفاعل التربوي الحي؟
لذا، أقترح وبكل جدّية ساخرة:
- إصدار قانون يمنع المعلمات من استخدام البوتوكس أثناء سنوات الخدمة.
- إنشاء وحدة تفتيش وجهي في كل مدرسة.
- وتأسيس “بنك التجاعيد التربوية” لتوثيق كل حركة حاجب شريفة كانت سببًا في فهم درس أو حلّ مسألة.
- كتابة عبارة واضحة على حقن البوتكس غير مخصص للمعلمات.
- عقد مؤتمر وطني تربوي حول أثر التدخلات التجميلية على فعالية المعلم والمعلمة.
صدقوني، التعليم ليس شفافيات ولا باوربوينت ولا كتب ملونة.
التعليم هو المعلمة التي تقول للطالب بعينها ووجهها قبل لسانها: “أنا أفهمك … وأنا هنا لأساعدك”.
فلنحافظ على تعابيرنا… فهي ما تبقى من إنسانيتنا في زمن صار فيه كل شيء قابل للحقن.