التجنيد الإجباري بين الماضي والحاضر
نصر عصفور
24-08-2025 10:58 AM
* بين صيانة الوطن وتحديات المستقبل
هل يُبنى الوطن اليوم بالبنادق كما كان في الأمس، أم يُبنى بالعقل الذي يفكك الشيفرات، وبالعلم الذي يصنع التفوق، وبالتكنولوجيا التي تحسم الحروب قبل أن تُطلق طلقة واحدة؟
منذ أيام قليلة عاد قانون خدمة العلم إلى الواجهة، كأنه يجرّنا إلى صورة مضت؛ جندي يحمل بندقيته، طابورٌ من الشباب بزيّ موحّد، وصوت الأوامر يعلو فوق كل شيء. يومها كان ذلك منطق العصر، فالمعارك كانت تُخاض في الخنادق والسهول، والعدد والعدة هما الحكم الفصل. أما اليوم، فالمشهد مختلف؛ الحرب لم تعد عند حدود الجغرافيا، بل عند حدود العقل والمعرفة. الرصاصة قد تُسقط جنديًا، لكن ضغطة زر على حاسوب قد تُسقط دولة.
إننا في زمن تتقدّم فيه الاستخبارات الدقيقة على المدفع، وتُصبح المعلومة أدهى من الرصاصة، والاختراق الإلكتروني أخطر من الدبابة. فهل من الحكمة أن نُعيد تفعيل التجنيد الإجباري كما كان، وكأن عقارب الساعة لم تتحرك؟ وهل صيانة الوطن اليوم تكون بحشد الشباب في معسكرات تقليدية، أم بتسليحهم بالعلم، وفتح أمامهم أبواب الإبداع، وإشراكهم في معركة المستقبل؟
الشباب هم زاد الوطن ورصيده الذي لا ينضب، لكنهم في هذا الزمن يخدمون أوطانهم بأكثر من طريقة. فمن يحمي الوطن هو ذاك الذي يبتكر برنامجًا يمنع اختراق أنظمته، وذاك الذي يبني شركة توفّر فرص عمل لأبناء بلده، وذاك الذي يطور دواءً أو جهازًا طبيًا يرفع اسم وطنه عاليًا. الوطن لا يطلب من شبابه أن يحملوا السلاح فقط، بل أن يحملوا الفكرة، أن يصنعوا الأمل، وأن يزرعوا المستقبل.
أما الحكومة، فإن كانت تُطالب شبابها بالتضحية، فعليها أولاً أن تُقدّم لهم العدالة. كيف نطلب منهم أن يدافعوا عن وطن لم يمنحهم مكانًا فيه؟ كيف نُلزمهم بالخدمة بينما عشرات الآلاف من الخريجين يبحثون عبثًا عن فرصة عمل تليق بمؤهلاتهم؟ إن العدالة الاجتماعية والاقتصادية ليست ترفًا، بل هي خط الدفاع الأول عن أي وطن. فالجيش القوي وحده لا يصمد إذا كان المجتمع هشًا، والأمن العسكري لا يدوم إذا كان الأمن الاقتصادي غائبًا.
صيانة الوطن لا تتحقق بقرارات إدارية ولا بقوانين فوقية، بل برؤية وطنية تجعل الأمن منظومة متكاملة: جيش محترف مدرّب على أحدث تكنولوجيا، واقتصاد قوي يحمي من الانهيار، وتعليم عصري يُخرّج أجيالًا مسلّحة بالعلم لا بالبطالة، ومجتمع يثق أن الدولة تقف إلى جانبه لا فوقه.
التجنيد الإجباري قد يعزز الانضباط ويزرع في النفوس حسّ المسؤولية، لكنه لن يكون حلًا سحريًا إذا ظلّ مجرد نسخٍ مكررة من الماضي. إنما الحل في أن يكون مدخلًا لمشروع وطني متكامل، مشروع يعيد الثقة بين الدولة وشبابها، ويحوّل الحماسة إلى إنتاج، والانضباط إلى إبداع.
إن الماضي له سياقه وظروفه، والحاضر له تحدياته القاسية. وما يصلح في الأمس قد يكون عبئًا اليوم. لذا فإن خدمة العلم لا بد أن تتطور لتكون جسراً نحو المستقبل، لا قيدًا يربطنا بالماضي. الوطن لا يُصان بالبنادق فقط، بل بالعدل الذي يحمي، وبالأمل الذي يبني، وبالفرص التي تجعل الشاب يؤمن أن هذا الوطن له كما هو عليه. ومن هنا فإن الحكومة مطالَبة، لا بفرض القوانين من علٍ، بل بفتح حوار وطني صادق وشفاف مع شبابه، لأنهم الوقود الحقيقي لأي معركة، والركيزة الأولى لأي بناء. وإذا لم يشعروا أن الوطن وطنهم، فكل بندقية ستبقى بلا روح، وكل قانون سيبقى بلا جدوى.