الهوية في زمن التشظي الجيوسياسي
هادي العبدو
11-09-2025 04:57 PM
الهوية كالنار قد تُولّد الدفء والراحة، أو تحرقها بشدة فتُدمّر، وقد تُنشئ روابط عبر المحيطات واللغات والأجيال والثقافات؛ لكنها قد تُثير أيضًا الفرقة بين من يعيشون جنبًا إلى جنب. من جهة نتشابه جميعًا أكثر مما نختلف، ومن جهة أخرى تُهمّنا أوجه اختلافنا. فرغم كل ما هو مشترك في التجربة الإنسانية، فإن الاختلافات صارخة، بل وتزداد وضوحًا في بعض النواحي. كما أنها تُشكّل بشكل متزايد إطارًا للنشاط السياسي، والقلق العام، وأحيانًا الذعر الأخلاقي.
الهوية ليست سعيًا وراء دور سياسي، بل هي موجودة أيضًا في السراء والضراء، وفي الغالب في كليهما، هي جزء لا يتجزأ من كيفية تعاملنا مع الناس أفرادًا وجماعات. الخيار يكمن في إما الاستسلام لمخاطرها وسط الهلع الأخلاقي والانقسام، أو الاستفادة من إمكاناتها من خلال التضامن بحثًا عن أرضية مشتركة أسمى.
تشرذم الهوية:
نُعاني من أزمة هوية، إذ نكافح لتحديد هويتنا ومكانتها وكيفية تصرفها. فبدون رؤية لهوية مشتركة وهدف مشترك نقع في أيديولوجيات متنافسة وصراعات على السلطة. ويبدو أن تعابير لا حصر لها من "نحن" و"هم" تُعرّف هويات الجماعات بشكل أضيق وأكثر تناقضًا. ومع مرور الوقت أضعف هذا التشرذم جماعات المصالح المتباينة تماسك المجتمع نفسه.
إن "أزمة الهوية" هي إحدى السمات المميزة للعصر الحالي. وقد برزت مسائل الهوية والانتماء بقوة في الأحداث الأخيرة، لتجد تعبيرها في كل جانب تقريبًا من جوانب الحياة الجماعية. ومع تحدي قوى عصرنا العالمي للحدود الفعلية والمجازية التي تُحدد هويات الجماعات، فإن الشعور بالانتماء الآمن الذي وفرته هذه الهويات تقليديًا يزداد إحباطًا أو فقدانًا، مما يؤدي إلى الارتباك وانعدام الأمن والصراع وتأكيدات الاختلاف المتزايدة. ومن المفارقات أنه حتى مع تزايد وضوح الحاجة إلى شعور عميق بالوحدة الإنسانية، تضاعفت فئات "نحن" و"هم" وأصبحت أكثر بروزًا اليوم.
في مواجهة أزمة الهوية التي نعيشها، اقترح بعض المفكرين إعادة تصور الهوية الوطنية. ويشيرون إلى أن شكلاً جديداً من الوطنية، مُستنيراً وواسعاً وشاملاً، يمكن أن يوفر سياقاً مشتركاً للانتماء يمكن من خلاله التوفيق بين مختلف الهويات والارتباطات الأضيق. لكن الحلول المتجذرة في الهوية الوطنية، أو في مفاهيم مألوفة أخرى كالديمقراطية الليبرالية، تكافح لحل هذه الأزمة.
الطائفية كهوية سياسية:
يُقال إن السوريون لا يولدون على انتماء سياسي، وهذا أمرٌ ثابت. إنهم يفتقرون إلى القدرة على تقييم الأفكار بناءً على جدارتهم، أو على التعامل مع العالم خارج نطاق هويتهم الحزبية. إنهم يرثون المناصب السياسية من آبائهم، وهذا أمرٌ شبه ثابت، ولكن أكثر من هذا هناك اعتقاد بأن الحزب السياسي في سوريا هو الذي يشكل سلوكك ومعتقداتك - وليس أنت المواطن الذي يشكل الأحزاب السياسية، وبالتالي فإن الحزب السياسي هو الذي يشكل طبيعة من أنت كشخص.
يخلص هذا الادعاء إلى أن السياسة السورية كانت طائفية. وأن سوريا أصبحت بفعل الظروف المختلفة بمثابة أيرلندا الشمالية في القرن العشرين - فأنت إما كاثوليكي أو بروتستانتي، وجميع ذريتك ستكون متشابهة تمامًا، والشيء الوحيد الذي تؤمن به هو كرهك للطائفة الأخرى، وأن كل جانب من جوانب المجتمع محكوم بهذه الرؤى من المدارس التي ترتادها إلى أماكن عملك إلى أماكن سكنك. هدف السياسة هو استغلال سلطة الدولة لصالح جماعتك والتضييق على الجماعة الأخرى.
يتفاقم هذا الوضع بفعل المؤثرات الخارجية المرتبطة بزعزعة الاستقرار، وتحقيق أهداف مختلفة، ومن جهة أخرى بسبب طبيعة السياسة الحديثة المبنية على جماعات الهوية حيث تعتمد سياسة الهوية على استعانة الآخرين بعقل الإنسان. إنها ترى أن غاية الحياة وليس مجرد السياسة هي الانتماء إلى جماعة لا الفرد يكمن جوهرها في انعدام الأمن ويريد الناس معرفة المواقف التي ينبغي أن يتبناها، أو كيف ينبغي أن يتصرفوا بدلًا من الثقة بالنفس. إنه نقيض الأصالة؛ وهو نقطة الضعف التي تستغلها الطائفية.
لأن الطائفية مبنية على انعدام الأمن، فإنها تسعى غريزيًا إلى الأمان العاطفي داخل الجماعة. ومع ذلك كلما كثرت زادت من تعقيد هذه الطائفية وتفاقمها. إنها حلقة مفرغة ذات عواقب قد تكون عنيفة ومزعزعة للاستقرار.
السؤال هو: هل يستطيع السوريون تجاوز هذا التفكير، أم أنهم أصبحوا مقيدين به؟ هل يصبح الحزب هويةً بحد ذاته، ولا مفرّ من دوامة الطائفية؟
في أدبيات السياسة هناك الإشارة إلى سمتين أساسيتين تُهيئان لأزمة الهوية. الأولى هي تصنيف الدولة على أنها "أنوقراطية"، وهو مصطلح يُطلق على الدول التي تجمع بين السمات الديمقراطية والاستبدادية. تفتقر هذه الدول إلى المؤسسات الديمقراطية القوية والنزيهة التي تُمكّن الناس من العمل معًا للتوصل إلى تسويات مقبولة، لكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى القوة الاستبدادية اللازمة لمنع وقوع العنف.
السمة الثانية هي تحجر سياسات الهوية. حيث يُنظّم الناس أنفسهم في فصائل قائمة على الهوية، ويعجزون عن فهم العالم خارج هذه الفصائل. ولأن الهوية متجذرة في نفوس الناس، فهي أقوى بكثير من مجرد اختلاف الخيارات السياسية، أو حتى المصالح الاقتصادية. إنها تبدو وجودية.
وأخيرًا يحمل المستقبل الكثير، وخاصة فيما يتعلق بالطريقة التي نعرّف بها أنفسنا والآخرين. ويبدو بالفعل أن حالة أزمة الهوية ليست نهاية القصة. فقد تكون إحدى دورات التغيير المصممة لتمييز الأوقات الحالية. وبالتالي، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها هي إلى أي مدى نحن على استعداد للذهاب لمواصلة التفاوض على شروط وجودنا مع بعض عبر العصور؟