ريادة الأعمال الصغيرة: محرك خفي للاقتصاد الوطني
د. مثقال القرالة
30-10-2025 01:35 PM
في قلب المشهد الأردني، حيث تتدافع الأرقام على طاولة الموازنات، وتتزاحم المؤشرات بين النمو والانكماش، وحيث تتأرجح السياسات بين قيود الدين العام وضغط المطالب الشعبية، هناك قوة اقتصادية تنبض في الظل، بعيدة عن ضجيج المؤتمرات وكاميرات الأخبار، لكنها تسري في جسد الاقتصاد كما يسري الدم في العروق… قوة هادئة لا تُرى، لكنها تُحس في نبض الأسواق، وفي لقمة العيش التي تصل إلى موائد العائلات، وفي الفرص التي تولد رغم شح الموارد. إنها ريادة الأعمال الصغيرة، المحرك الخفي الذي يدير عجلة الاقتصاد الوطني من العمق. ليست هذه المشاريع الصغيرة مجرد بسطات في الأسواق الشعبية، أو ورشات حرفية في أحياء المدن، أو متاجر على أطراف القرى، بل هي وحدات إنتاجية عالية الكفاءة، مختبرات للابتكار، منصات لتوليد القيمة المضافة، وخطوط أمامية في معركة الاستقلال الاقتصادي. في كل مشروع صغير، هناك قصة كفاح، ومعادلة اقتصادية متقنة: رأس مال محدود، فكرة مبتكرة، إدارة رشيدة، وإصرار على النمو.
الاقتصاد الأردني، بموارده المحدودة واعتماده النسبي على المساعدات الخارجية، لا يستطيع أن يركن إلى المشاريع العملاقة أو الاستثمارات العابرة فقط. إنما يحتاج إلى قاعدة اقتصادية أفقية واسعة، تمتد من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن المدن الكبرى إلى القرى النائية. هذه القاعدة لا يقدر على بنائها سوى المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تملك المرونة اللازمة لامتصاص الصدمات الاقتصادية، وتحويل الأزمات إلى فرص، واستغلال الفجوات السوقية التي تعجز الكيانات الضخمة عن ملئها. قوة هذه المشاريع تكمن في ديناميكيتها؛ فهي تتحرك بسرعة، تتكيف مع تغيرات السوق، وتبتكر حلولاً منخفضة التكلفة، وتفتح أسواقاً جديدة بجرأة. الأرقام العالمية تثبت أن الاقتصادات المتقدمة لم تصل إلى قوتها من خلال المشاريع العملاقة وحدها، بل من خلال آلاف المشاريع الصغيرة التي نمت وتكاثرت حتى شكلت عصب الإنتاج والتصدير. والأردن ليس استثناءً؛ بل هو أرض خصبة لريادة الأعمال بحكم طاقاته الشبابية المتعلمة، وموقعه الجغرافي كمحور إقليمي للتجارة والخدمات.
لكن هذه القوة كثيراً ما تُخنق قبل أن تبلغ مداها. البيروقراطية المرهقة، والتشريعات المكدسة، وصعوبة الوصول إلى التمويل الميسر، وضعف البنية التحتية للتسويق، كلها عراقيل تجعل كثيراً من الأفكار الريادية تموت في مهدها. كم من شاب أردني حمل فكرة كان يمكن أن تتحول إلى علامة تجارية عالمية، لكنه اصطدم بجدار المعاملات والإجراءات؟ وكم من سيدة في قرية أردنية أتقنت صناعة غذائية أو حرفية فريدة، لكنها لم تجد منصة لتسويق منتجها خارج حدودها المحلية؟. إن الاستثمار في ريادة الأعمال الصغيرة ليس رفاهية اقتصادية، بل هو خيار استراتيجي لحماية الأمن الاقتصادي والاجتماعي. فكل دينار يُضَخ في تدريب رواد الأعمال، وتسهيل تسجيل مشاريعهم، وتوفير حاضنات أعمال لهم، هو دينار يعود أضعافاً إلى خزينة الدولة عبر الضرائب، ويخلق فرص عمل تقلل الضغط على سوق العمل، وتبني طبقة وسطى قادرة على الاستهلاك والإنتاج معاً.
على الحكومة أن تنظر إلى هذا القطاع باعتباره خط دفاع وهجوم في آن واحد. الدفاع، لأنه يخلق شبكات أمان اجتماعية عبر توفير فرص العمل والحد من البطالة. والهجوم، لأنه يفتح أسواقاً جديدة، ويعزز التصدير، ويزيد تنافسية الاقتصاد الأردني في الإقليم. وعلى البنوك أن تتحرر من عقلية التمويل التقليدي، وتبتكر أدوات مالية تلائم طبيعة هذه المشاريع. وعلى القطاع الخاص أن يرى فيها شريكاً في سلاسل الإمداد والإنتاج، لا منافساً صغيراً. إن النهضة الاقتصادية التي نحلم بها قد لا تأتي من أبراج زجاجية شاهقة، ولا من استثمارات بمليارات الدنانير وحدها، بل قد تبدأ من ورشة حدادة في عجلون، أو محل نجارة في الكرك، أو شركة برمجيات ناشئة في إربد. هذا هو الجذر الاقتصادي الذي إذا سُقي بالرعاية، نما وتفرع، وحمل ثمار التنمية الحقيقية. فالتاريخ الاقتصادي يعلمنا أن قوة الأمم تُبنى من أسفل إلى أعلى، وأن أصغر الأفكار قد تُشعل أكبر التحولات. وإذا أراد الأردن أن يبني اقتصاداً قادراً على الصمود وسط العواصف العالمية، فعليه أن يحرر هذا المحرك الخفي من قيوده، وأن يمده بالوقود اللازم: تمكين، تمويل، وتشريعات ذكية. فهناك، في قلب الأسواق الشعبية، وفي الورش الصغيرة، وفي عقول الشباب، يولد الغد الاقتصادي للأردن.