غار الدماء عبق التاريخ وسحر الطبيعة للدكتور مصطفى الستيتي
04-11-2025 07:38 PM
عمون - قراءة مصطفى القرنه
في زمن يختلط فيه صخب الحاضر ووتيرة الحياة المتسارعة، يأتي كتاب الدكتور مصطفى الستيتي "غار الدماء: سحر التاريخ وعبق الطبيعة" كنافذة حقيقية تفتح على عمق الروح التونسية، ومنطقة غار الدماء التي تحتفظ بين أحضانها بكنوز طبيعية وتاريخية وثقافية نادرة. هو ليس مجرد سرد جغرافي أو تأريخ تقليدي، بل شهادة صادقة حية تلامس الأرض والإنسان، وتتحدث بلغة تشعّ بالانتماء والوفاء.
تسير بنا كلمات الكاتب في رحاب الطبيعة التي لم تُروَ بعد، حيث الغابات الكثيفة وعيون الماء التي تهمس بأسرار الزمن، فتتحول التفاصيل إلى لوحات فنية نابضة، يشعر معها القارئ بنسيم الأشجار يداعب وجهه، وبصوت خرير النهر يبعث في نفسه هدوءً عميقًا. الطبيعة هنا ليست مجرد خلفية، بل هي روح حيّة حاضرة في كل صفحة، تُغني النص بإيقاعها، وتمنحه حياة خاصة.
لا يقتصر الكتاب على وصف المكان، بل يغوص في عمق النسيج الاجتماعي، ليكشف عن العائلات التي أسست المدينة وأثرت في مسيرتها، ويعيد تدوين ذاكرة مجتمع قد تلاشت تفاصيله في زحمة الزمن. إن سرد المؤلف لعادات وتقاليد تلك الأسر، وأحداثهم اليومية، يُظهر قدرته على حفظ الذاكرة الشعبية وتكريم الإنسان العادي، هذا الإنسان الذي صنع الحياة على هذه الأرض بصبره وتفانيه. كما يضيء الكاتب على مسيرة التعليم التي شكلت خطوة تاريخية في مسار تطور المدينة، موضحًا كيف أصبحت المدارس محطات نور وأمل، تنقل الأجيال من عتمة الجهل إلى أفق الوعي والثقافة.
وفي قلب هذا العمل يتوهج التاريخ بحيويته، إذ يسرد المؤلف الفصول المختلفة التي مرت بها غار الدماء، من أزمنة قديمة إلى أيام الاحتلال ونضال المقاومة. لكن التاريخ هنا لا يُقدم كتوثيق جاف، بل كقصص تحكيها أرواح الأبطال الذين حملوا مشعل الحرية، مبرزًا معاناة السكان وتضحياتهم في سبيل الوطن. هذا التناول المتوازن بين التوثيق والإنسانية يجعل النص في متناول الجميع، ويغني الذاكرة الوطنية بما يتجاوز سرد الوقائع.
لم يكن الكاتب غافلًا عن الحاضر ومستقبل المنطقة، فقد أشار بذكاء إلى الإمكانات الاقتصادية التي تكتنزها غار الدماء، ودعا إلى استثمار مواردها الطبيعية والثقافية من خلال رؤية تنموية تنبض بالأمل. إذ يرى في السياحة البيئية والزراعة المستدامة منطلقات حقيقية للنهوض بالجهة، محافظًا على توازنها البيئي ومجدّدًا لعلاقات الإنسان بأرضه.
لغة الكتاب تتسم بالبساطة والرصانة في آن واحد، تنساب بسلاسة، تغذي العقل والوجدان معًا، فتُحسّن تجربة القراءة وتُعمّق الشعور بالانتماء. أسلوب المؤلف المتقن يجمع بين صدق التعبير وجمالية الوصف، في صياغة تخاطب القارئ بحرارة دون إسهاب أو تعقيد، مما يمنح النص روحًا خاصة تنتمي إلى تلك الأرض.
في النهاية، يُعد هذا الكتاب أكثر من مجرد دراسة أو توثيق، إنه سفر إلى الذاكرة العميقة، وعبور إلى المستقبل المزهر. هو احتفاء بالمكان وبالناس، وعمل يرسّخ نموذجًا رفيعًا للكتابة المحلية التي تتجاوز حدود المكان إلى آفاق الإنسان والتاريخ والحلم. ومن خلال وفائه للذاكرة وحنينه إلى الجذور، يفتح لنا الدكتور مصطفى الستيتي نافذة لنرى الوطن في تفاصيله الجميلة، وندرك أن كل حبة تراب تحمل قصة تستحق أن تُروى.
لهذا، فإن "غار الدماء: سحر التاريخ وعبق الطبيعة" هو قراءة ضرورية لكل من يعشق تونس بكل ما فيها من تاريخ وحضارة، لكل باحث عن عمق الإنسان والمكان، ولكل من يؤمن بأن الكتابة عن الوطن هي أسمى أشكال التعبير عن الحب والانتماء. هذا الكتاب هو شهادة حية على أن الأرض والذاكرة لا تموتان، بل تعيدان صياغة حياتهما مع كل جيل جديد.