لهو الحديث .. حين يُشترى الضياع في زمن التفاهة
صالح الشرّاب العبادي
10-11-2025 08:28 AM
قال تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾
(لقمان: 6)
في هذه الآية الموجزة يجسّد القرآن جوهر معركةٍ خفيةٍ لا تنتهي: معركة العقل والهوى، الوعي واللهو، الكلمة الهادية والصوت المضلّ.
هي ليست معركةً عسكرية ولا سياسية، بل معركةٌ على روح الإنسان، على وعيه، على ما يُدخل إلى سمعه وقلبه وعقله.
في كل عصر يتبدّل شكل “لهو الحديث”، لكن جوهره واحد: صرف الإنسان عن سبيل الله وإشغاله بالباطل عن الحق.
فقد كان في الأمس غناءً يُسكر القلوب، واليوم صار موجاتٍ من محتوى هابطٍ يُغرق العقول، وصورًا براقةً تخدر الضمائر باسم الفن والترفيه والانفتاح.
حين يصبح اللهو نمط حياة
لم يعُد اللهو يُشترى بدراهم كما كان في الماضي، بل يُشترى بالعمر والانتباه والوقت.
نُسلِّم عقولنا لشاشاتٍ تبرمج وعينا على مقاييسها، ونسمح لأصواتٍ عابرة أن تُشكّل ذائقتنا، حتى ننسى أن للأذن حقًّا كما للعين حقًّا، وأن ما يدخل من نوافذ الحواس يكتب مصير القلب.
الضياع لا يبدأ بالكفر، بل بالانشغال؛ أن تنشغل عما خُلقت لأجله، أن تُستبدل ذكرك للقرآن بلهوٍ عابر، وسكينتك بضجيجٍ متتابع.
وهكذا يتحقق قول الله: «ليُضلّ عن سبيل الله بغير علم» — أي بجهلٍ مغلفٍ بالمتعة، وبإعراضٍ يلبس ثوب الحرية.
لهو الحديث في زمن الغناء والطرب والمحتوى الهابط
في زمننا، صار الغناءُ صنعةً تُدار بعقولٍ تعرف كيف تُغري القلوب وتُميت الوجدان.
يُقدَّم الانحلال في ثوب الفن، ويُسوَّق الابتذال على أنه حرية، حتى يُصبح التبلّد جمالًا، والميوعة موهبة، والسخرية فكرًا.
والشاشات — التي ملأت بيوتنا — تحوّلت إلى مواسم صاخبة للغفلة، تزرع فينا الانبهار بكل ما يُبعدنا عن أنفسنا وعن خالقنا.
تُضحكنا لتُنسينا، تُبهرنا لتُعمينا، حتى نغدو أسرى لصورةٍ وصوتٍ لا نملك منه شيئًا سوى العادة والإدمان.
إن “لهو الحديث” اليوم لا يحتاج إلى بائعٍ في السوق، بل إلى تطبيقٍ على الهاتف، أو قناةٍ على الشاشة، أو موجةٍ من التفاهة تنساب إلينا في لحظة ضعف ، او مسارح فاسخة فاضحة ، ومحتويات مبتذلة رخيصة فيها من الدياثة ما فيها.
وفي كل ذلك، تُسرق من الإنسان قداسة وقته، ونقاء فطرته، ومفتاح سكينته.
الوعي عبادة، والسمع أمانة
ليس المقصود أن نحرم أنفسنا من الفرح أو الترفيه، بل أن نُعيد الفرح إلى مكانه الصحيح: فرحًا يعمّر القلب لا يخرّبه، يرفع الذوق لا يبتذله، ويقرّبنا إلى الله لا يُغرقنا في الغفلة.
فالوعي عبادة، والسمع أمانة، ومن ضيّع سمعه فيما يُميت القلب فقد باع أغلى ما يملك بثمنٍ بخس.
رسالة إلى الشباب
يا شباب الأمة، أنتم زينة أوطانكم وعماد نهضتها، فلا تجعلوا من الشاشات مربّيكم، ولا من الشهرة هدفكم، ولا من لهو الحديث بوصلتكم.
أنتم وُلدتم لتكونوا صنّاعًا للحق لا صدى للباطل، وقادةً في معركة الوعي لا متفرجين على انحدارها.
املؤوا فضاءكم بكلمةٍ طيبة، وفكرٍ راقٍ، وفنٍّ نظيفٍ يرفع ولا يُسقط، وابحثوا عن جمالٍ يُذكّركم بالله لا يُنسيكم إياه.
احذروا أن تبيعوا عقولكم في أسواق التفاهة الهابطة الرخيصة ، فهناك تُشترى الأرواح وتُطفأ الفطرة، ويُسلب الإنسان دون أن يشعر.
وتذكروا دائمًا:
إن الضياع يُشترى أحيانًا بثمنٍ بسيط، لكنه يُكلّف عمرًا كاملًا.
فاحموا قلوبكم، وأعينكم، وأسماعكم، وكونوا كما أرادكم الله… شهودًا على النور في زمن الغفلة.