من هو الأردني؟ تفكيك الجدل واستعادة المفهوم
الشاعر أحمد طناش شطناوي
20-11-2025 11:16 AM
عادت مسألة الهوية الأردنية إلى الواجهة من جديد، فهي واحدة من أكثر القضايا إشكالًا في المخيال السياسي والثقافي الأردني؛ وقد عاد نصّ ناهض حتر "من هو الأردني؟" ليفتح دائرة الجدل، لكنني هنا لا أذهب إلى نقد الرجل أو الدفاع عنه، لكنني سأسعى إلى تفكيك الأسئلة المؤسسة التي يعيدها هذا الجدل إلى الضوء.
ولا يمكن لأي نقاش جاد حول الهوية أن يبدأ من حدود الدولة الحديثة وحدها؛ فثمة مجالٌ أوسع سبق خرائط الاستعمار والانتداب، ولا يمكن إغفاله في أي مقاربة وطنيّة؛ ففي العالم العربي كانت حركة القبائل والعائلات تتجاوز الحدود الحالية بزمن طويل، لتتشكل امتدادات بشرية واسعة تتوزع بين أكثر من قطر؛ كما أن كثيرًا من المجموعات البشرية توطنت في بلدان جديدة، واندمجت فيها اندماجًا كاملاً، ومارست مواطنتها ضمن الدولة التي استقرّت فيها، دون أن تفقد ارتباطها الوجداني والتاريخي بجذورها الأولى؛ وهذا النمط من التعدد ليس طارئًا ولا استثناءً؛ بل هو جزء من الطبيعة الاجتماعية العربية، حيث تتعايش الذاكرة الأولى مع ولاء جديد يتشكّل في إطار الدولة.
وفي السياق ذاته، فقد كانت الحدود السياسية في العالم العربي قبل نشوء الدولة القُطرية فضاء واحدا تتحرك فيه الانتماءات وتتبدل قبل أن تُعاد صياغتها بفعل الاستعمار لتصبح حدودًا سياسية ملزمة، كانت فضاء عروبيا إسلاميًا؛ ومع ذلك ظلّ مسقط الرأس يمثل مكوّنًا وجدانيًا عميقًا لا يناقض الانتماء الأكبر بل يكمله؛ وقد عبّر الرسول الكريم عن هذا المعنى في قوله عند خروجه من مكة: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»؛ فالوجدان الإنساني لا ينفصل عن مكانه الأول، لكنه لا يمنع أن يتشكل ولاءٌ سياسي جديد حيث تُبنى الدولة ويتهيأ الأمان وتتجسّد المشاركة العامة؛ ومن هذا الامتداد التاريخي للتعدد والانفتاح تتبلور الهوية الوطنية الحديثة باعتبارها الإطار السيادي الجامع الذي يُنظّم ولاءات الأفراد ويحوّلها إلى مواطنة فاعلة.
وفي السياق ذاته أيضًا تقدم لنا السيرة النبوية مثالًا أكثر عمقًا في تشكّل الهوية السياسية، فبعد أن هاجر النبي الكريم إلى المدينة وأسّس فيها دولة الإسلام، منح المدينة ولاءه السياسي الكامل دون أن ينتقص ذلك من حبّه لمكة، وفي قوله للأنصار بعد غزوة حنين: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب؛ اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» وهنا يتجلّى جوهر فكرة المواطنة الحديثة، فالانتماء السياسي يُمنح للبلد الذي يصنع لك دولة، ويوفر لك الأمان، ويشاركك أهلُه بناء مشروع عام؛ وبالتالي تصبح الهوية الوطنية امتدادًا لحقّ المشاركة في بناء الدولة، لا مجرد صدى لأصل بيولوجي أو مكان قديم.
ومن هنا يمكن أن نقرأ سؤال: من هو الأردني؟
فالأردني هو كل من يعيش على هذه الأرض ويحمل رقمًا وطنيًا، ويتمتع بكامل حقوق المواطنة، من التملك إلى الحق بالوظيفة العامة والجيش وحق الصحة والتأمين الصحي، وحق الترشح والانتخاب وتمثيل الشعب والمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني، لكن هذه الحقوق لا تستقيم دون واجبات مقابلة، فالمواطنة ليست بطاقة تعريف، بل فعل مشاركة ومسؤولية.
وفي السياق ذاته يجدر الإشارة إليه أن التركيب الديموغرافي الأردني ليس تركيبًا عاديًا؛ إنه نتاجٌ لواقع جيوسياسي معقّد فرض على الأردن تحولات كبرى، خاصة بعد النكبة والنزوح؛ فمنحُ الجنسية للفلسطينيين لم يكن مشروعًا لإذابة القضية، بل كان التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا في آنٍ واحد، ورافقه استمرار الدولة الأردنية في المطالبة بحق العودة، ولكن هذا لا يلغي أن من وُلد على هذه الأرض وعاش عليها ودفن أهله فيها، له حقّ أن يُعامل بوصفه مواطنًا كاملًا.
ولكن المشكلة تبدأ حين تتحول الهوية إلى ممارسة انتقائية، نتمسّك بالهوية الأردنية عند المطالبة بالحقوق، ثم نتراجع إلى هوية فرعية أو خارجية عند الواجبات أو عند مغادرة البلد، فهذا ليس تنوعًا، بل تعليقٌ للولاء الوطني وفق المصلحة، وهو ما لا يمكن لأي دولة أن تستقر معه.
أما ما يُسمّى بالهوية الوطنية الجامعة، فهو من أكثر المفاهيم التي أسيء فهمها في النقاش العام؛ فليست الجامعة تجميعًا ميكانيكيًا لهويات فرعية تتجاور داخل كيان واحد؛ وليست ساحة تتصارع فيها الولاءات القبلية أو الجهوية أو الخارجية؛ إن الهوية الوطنية الجامعة هي هوية عليا، تضبط إيقاع الانتماءات الأصغر دون أن تلغيها، وتمنحها معناها في إطار الدولة الحديثة، فهي ضرورة سيادية لحماية الدولة من التفكك والانقسام، وتجمع مكونات المجتمع في هوية واحد وانتماء واحد وولاء واحد.
فالهوية الأردنية ليست مظلة تسمح لكل جماعة أن تعيش هويتها الفرعية ككيان مستقل داخل الدولة، إنها إطار سيادي واحد يحمل امتدادًا عربيًا وإسلاميًا بحكم الدستور، ويجعل من المواطنة معيارًا وحيدًا للحقوق والواجبات؛ وإذا تحولت الهوية الجامعة إلى فسيفساء متناحرة، نكون قد عدنا من الدولة إلى التجمع، ومن المواطنة إلى الولاءات المتكسّرة؛ وهذا نقيض مشروع الاستقرار والوحدة الوطنية.
وعليه، فإن الدعوة اليوم ليست إلى المناكفة أو تثبيت الانقسامات، بل إلى استعادة الفهم الصحيح للهوية الأردنية بوصفها انتماءً مواطنيًا أساسه المشاركة والولاء، لا الانحدار والأصل؛ فالأردن لم يُبنَ إلا بتضافر كل من عاش على أرضه، ولن يستقر إلا بوحدة هذه السردية.
* رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين - إربد