الموازنة العامة بين مطرقة الالتزامات وسندان الرواتب
د. رندة نايف ابوحمور
23-11-2025 12:31 PM
كيف يمكن للحكومة الأردنية كسر الحلقة المغلقة؟
في كل عام تتكرر القصة ذاتها: حكومة جديدة، وعود جديدة، وموازنة تفصل على قياس “الالتزامات” لا على قياس طموحات الشعب أو احتياجاته الحقيقية. وعلى مدى الحكومات المتعاقبة، تحولت الموازنة العامة في الأردن إلى كتاب مفتوح على البنود الجامدة، بلا روح تنموية، وبلا جرأة كافية لإحداث اختراق اقتصادي ينعكس على جيوب المواطنين ورواتبهم.
أولا: مرض الموازنة الأردنية المزمن
تاريخيا، تعاني الموازنة من ثلاث علل ثابتة:
1. تضخم النفقات مقابل شبه جمود الإيرادات
تتزايد النفقات الجارية — خصوصا الرواتب والتقاعد وخدمة الدين — بنسب أعلى من الزيادات في الإيرادات المحلية. والنتيجة؟ هامش المناورة يختنق عاما بعد عام، لتصبح الحكومة “أسيرة” بند الصرف لا صانعة لقرار اقتصادي.
2. التشوهات الضريبية
تعتمد الموازنة بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة (المبيعات والرسوم)، وهي الأكثر إفقارا للناس وإعاقة للنمو. بينما بقيت الضريبة على الدخل والاستثمار في مستويات لا تنتج عدالة ولا تحفز بيئة الأعمال.
3. إرث الديون وارتفاع خدمة الدين
كل حكومة تسلم اللاحقة إرثا أثقل. وبدلا من استثمار القروض في مشاريع إنتاجية، ذهب الجزء الأكبر—تاريخيا — لسد العجز والنفقات الجارية.
ثانيا: الرواتب العقدة التي يعرفها الجميع ولا يلمسها أحد
رواتب القطاع العام لم تعد تواكب تكاليف المعيشة، والقطاع الخاص يعاني من ركود وأعباء تشغيلية تحول دون رفع أجور العاملين. المواطن في المنتصف: قدرته الشرائية تتآكل، فيما السياسات المالية لا تزال تدور في حلقة مفرغة.
والسؤال الأهم:
هل يمكن رفع الرواتب دون انفجار المديونية؟
الجواب: نعم إذا امتلكت الحكومة الجرأة لإعادة هندسة الموازنة لا ترقيعها.
ثالثا: كيف تتجاوز الحكومة الحالية عقبات الموازنة وتزيد الرواتب؟
1. إعادة هيكلة النفقات الجارية بلا تردد
هناك مساحات كبيرة للهدر في:
السفر والمؤتمرات
شراء الخدمات
الرواتب العليا والبدلات
المؤسسات المستقلة
الحكومة بحاجة إلى مشرط اقتصادي لا مسكنات مالية.
2. دمج وإلغاء المؤسسات غير الضرورية
وجود أكثر من 25 مؤسسة مستقلة في بلد بحجم الأردن ترف مالي غير مبرر.
دمجها يوفر مئات الملايين سنوياً، وهي أموال يمكن توجيهها مباشرة لتمويل زيادات رواتب حقيقية.
3. إعادة ضبط العلاقة الضريبية مع المواطن
إجراءان فوريان:
تخفيض ضريبة المبيعات على السلع الأساسية
رفع الإعفاءات الضريبية للطبقة الوسطى
هذا سيعيد الدورة الاقتصادية للحياة وبالتالي يزيد إيرادات الدولة من النشاط الاقتصادي، لا من “جباية جيوب الناس”.
4. فرض ضريبة متدرجة على الثروات الكبرى والدخل المرتفع
ليس عدلا أن يبقى العبء على الفئات نفسها لعقود.
ضريبة عادلة على الأرباح العالية والثروات الكبيرة يمكن أن تساهم في توفير موارد مستقرة لزيادة رواتب الفئات التي تستحق.
5. خطة وطنية لرفع رواتب القطاع الخاص
الحكومة ليست طرفا مباشرا في رواتب القطاع الخاص، لكنها تستطيع:
تخفيض كلف التشغيل (الضمان، الطاقة، الرسوم)
تحفيز القطاع الخاص عبر حوافز ضريبية لمن يرفع رواتب موظفيه
توفير صندوق دعم مؤقت للشركات الصغيرة لرفع الحد الأدنى للأجور
6. التحول من “دعم الاستهلاك” إلى “دعم الإنتاج”
الدولة بحاجة إلى:
صناعات جديدة
اقتصاد رقمي
استثمارات نوعية
شراكات حقيقية مع القطاع الخاص
عندها يصبح رفع الرواتب جزءا من دورة نمو اقتصادية وليس قرارا حكوميا طارئا.
رابعا: الناس لا يريدون معجزات، يريدون عدالة
المواطن الأردني يعرف تماما أن الموازنة محدودة وأن الظروف صعبة، لكنه لا يقبل أن يكون دائما الحلقة الأضعف. يريد أن يرى:
عدالة في توزيع العبء
أولويات منطقية
جرأة في محاسبة الهدر
خططا واضحة لرفع الرواتب تنفذ لا تعلن فقط
خامسا: الحكومة الحالية، الفرصة الأخيرة؟
أمام الحكومة الحالية فرصة أن تكتب اسمها في تاريخ الإدارة المالية الأردنية، ليس عبر “ضبط العجز” فقط، بل عبر إطلاق برنامج وطني واقعي وجريء لرفع رواتب القطاعين العام والخاص.
وإذا لم يحدث ذلك، ستبقى الموازنة كتابا يعاد نسخه كل عام بلا روح، وستبقى فجوة الثقة بين الدولة والمواطن تتسع أكثر فأكثر.
* رئيسة لجنة المرأة وشؤون الأسرة وحقوق الإنسان - حزب الوطني الإسلامي / فرع البلقاء