الانضباط المالي كرافعة للنمو
أ.د. أمجد الفاهوم
26-11-2025 04:06 PM
*كيف تبني الدول اقتصاداً منتجاً يوازن بين الثقة والاستثمار؟
يُعد ضبط المال العام نقطة ارتكاز في بناء علاقة شفافة بين الدولة ومواطنيها، وهو أداة لضمان بيئة اقتصادية قادرة على النمو واستقطاب الاستثمار. فالإدارة المالية الحكيمة لا تُقاس بحجم الأرقام في الموازنة، بل بقدرتها على تحويل الموارد إلى قيمة مضافة، وتعزيز كفاءة الإنفاق، وتحسين نوعية الخدمات، بما يرسّخ الاستقرار الاقتصادي ويُطلق طاقات الإنتاج.
تُظهر التجارب الدولية المتقدمة أن الشفافية المالية هي بداية الإصلاح. فقد اعتمدت دول مثل السويد ونيوزيلندا أنظمة إفصاح مالي شاملة، تُنشر فيها التقارير الدورية للإنفاق والاقتراض وأولويات الموازنة، ما ساهم في رفع مستوى الثقة العامة وتقليص فجوة المعلومات بين الحكومة والمجتمع (OECD, Public Governance Reviews). إن نشر البيانات وتوضيح مبررات القرارات المالية يقلّص الهدر، ويحدّ من تضارب المصالح، ويعزّز صدقية المؤسسات.
أمّا الرقابة الفاعلة، فهي حجر الأساس الثاني. فقد نجحت كوريا الجنوبية في تعزيز الرقابة متعددة المستويات عبر الجمع بين هيئات حكومية مستقلة، ورقابة برلمانية، وصحافة اقتصادية قوية، ما خلق نموذجاً يمنع الانحراف قبل وقوعه ويجعل الامتثال قاعدة لا استثناء (IMF Fiscal Transparency Evaluations). الرقابة هنا ليست عقاباً، بل تعبيراً عن حوكمة رشيدة تمنح الاقتصاد مناعة طويلة الأمد.
ويأتي ترشيد الإنفاق كركن ثالث، تقوم عليه تجارب دول مثل سنغافورة التي ركّزت على تحويل الإنفاق نحو التعليم والتكنولوجيا والبنية التحتية، باعتبارها روافع إنتاج تعزز تنافسية الدولة وتقلل من الإنفاق غير المنتج. فالتخفيض العشوائي للنفقات يعرقل النمو، بينما إعادة توجيهها نحو القطاعات ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي المرتفع يخلق دورة مستدامة من الإنتاج والابتكار.
وفي جانب الجباية، أثبتت بعض الدول الأوروبية مثل أيرلندا أن النظام الضريبي المتوازن هو شرط للنمو. فالضرائب التحفيزية التي تدعم الاستثمار وتراعي قدرة القطاعات الإنتاجية كانت مفتاح نجاحها في اجتذاب الشركات العالمية وتحقيق معدلات نمو متقدمة (European Commission Taxation Papers). إن المال العام يُبنى من اقتصاد نشط، لا من إرهاق المكلفين.
أما إدارة الدين العام، فقد شكّلت إحدى أهم تجارب تشيلي وماليزيا؛ حيث جرى اعتماد اقتراض منتقى موجّه لمشاريع إنتاجية تُحدث عائداً يفوق كلفة التمويل. فالدين ليس مشكلة بحد ذاته، بل يصبح كذلك حين يُستخدم لسد العجز بدلاً من الاستثمار في المستقبل (World Bank Public Debt Reports).
وتكتمل هذه الأركان بالبعد الأخلاقي الذي يعمل كأساس لمنظومة الانضباط المالي. فالمسؤول المالي في الدول الناجحة يُنظر إليه باعتباره حارساً للمصلحة العامة، لا مجرّد مدير موارد. إن القرار المالي قد يصنع فرصة وطنية أو يعمّق أزمة تمتد لأجيال؛ لذلك فإن النزاهة والحياد والالتزام الوطني ليست قيمًا أخلاقية فقط، بل شروط للنجاح المؤسسي.
وفي الأردن، يشكّل ضبط المال العام فرصة لتعزيز أثر خطة التحديث الاقتصادي عبر ربط الاستقرار المالي بتوسيع القاعدة الإنتاجية. فالأردن يمتلك رصيداً مؤسسياً مهماً من ديوان المحاسبة، وأنظمة الرقابة، ومشروعات التحول الرقمي، وهي عناصر يمكن أن تتحول إلى مزايا تنافسية إذا استُثمرت في تحسين بيئة الأعمال، وزيادة كفاءة الإنفاق الرأسمالي، وتوجيه الموارد نحو القطاعات ذات المردود العالي كالطاقة المتجددة، والصناعات الدوائية، وتكنولوجيا المعلومات.