في بلداننا العربية، يبدو الطالب كمسافرٍ يُلقَى على كتفيه حملُ حقائبٍ لا علاقة لها بالرحلة التي يريد أن يمضي فيها. مناهجٌ مُثقلة، وصفحاتٌ تتزاحم فوق بعضها، حتى يكاد المعنى يضيع بين سطرٍ وسطر، وكأن الهدف ليس أن نفهم بل أن نُرهِق.
نُحمِّل أبناءنا تاريخ أوروبا وأمريكا منذ لحظة الميلاد حتى آخر رصاصةٍ في آخر حرب، بينما تلك البلاد لا تكلّف نفسها أن تُعرّف أبناءها على تاريخنا، ولا حضارتنا، ولا علمائنا الذين وضعوا أساس الطب والفلك والجبر والموسيقى. لا يذكرون لهم فضل النجوم التي رسمها العرب على خرائط السماء، ولا الدور الذي لعبته حضارتنا في يقظة العالم. كل ما يصلهم عنّا أننا شعوبٌ «جاهلة» و«متخلفة» و«همجية» وهكذا يُبنَى وعيٌ ناقص، في حين نغرق نحن أبناءنا بمعلوماتٍ لا تُغني ولا تُثمر.
نُرهق طالبًا يريد أن يدرس الطب بدروسٍ في الغابات والقارات والحروب، ونُلزم طالب الهندسة بتاريخ النهضة الأوروبية من ألف باب، ونملأ سنوات المدارس برياضيات معقدة وكيمياء تُقدَّم كأنها عقاب، لا علم. تتكدّس الدروس كالحجارة، فيما الصحة النفسية والجسدية والروحية والاجتماعية تُترك وحيدةً بلا رعاية.
كان الأولى أن تُضاء الطرق أمام كل طالب حسب موهبته وميوله، أن تُسأل أحلامه قبل أن تُفرَض عليه المقررات، وأن يُخصَّص في المرحلة الثانوية ما يهيّئه لِمَا سيصبح لا لِمَا تُريده الورقة والكتاب. لكن ما يحدث هو العكس: منظومةٌ ترتّب المواد على مقاسٍ واحد، فتصبح عبئًا، وتصبح المدرسة ساحةً لطموحاتٍ تُذبح بصمت.
ثم تُرفَع العلامة فوق رؤوس الطلاب كأنها مصيرٌ لا مهرب منه. لا يُنظر إلى حضوره، ولا لجهده، ولا لقدرة استيعابه. يُقسَم الطلاب إلى «أذكياء» و«ضعاف» وفق أرقامٍ قد تأتي بالحظ أو بالغش أو بالصدفة، فيما المواهب التي لا تُقاس بالورقة تُدفَن في الظل. من ينجح يُصفّ مع المتفوقين، ومن يرسب يُرمى في خانة الإهمال، مع أنه قد يحمل في داخله نورًا لا تراه الامتحانات.
ليست المشكلة في الطالب المشكلة في ميزانٍ أعمى جعل العلامة سيّدًا، وجعل الفهم تابعًا، وجعل الموهبة مجرّد ملاحظة على الهامش.
نحتاج إلى تعليمٍ يعيد للطفل إنسانيته قبل مسطرته، يعلّمه كيف يعرف نفسه قبل أن يكتب اسمه، ويقيس عقله بما يستطيع أن يفعله، لا بما يحفظه لساعةٍ ثم يذوب.
في اليابان مثلًا، تُفتح المدرسة أمام الطفل من عمر السادسة حتى التاسعة كما تُفتح نافذةٌ على عالمٍ يُربّي الروح قبل الدرس. لا امتحانات تُربكه، ولا علامات تُطارده. هناك، يُعتنى بالبذرة قبل الثمرة، ويُزرع الاحترام كما يُزرع القمح، ويُمارَس التعاون كما يُمارَس التنفس. لا ضغط علامات، ولا سباق درجات، ولا قلوب صغيرة تُرهق بالمقارنات.
ومن هذا الصفاء، ينشأ جيلٌ هادئ، مطمئن، قادر على مواجهة الحياة بثقةٍ وسلاسة، يعرف كيف يحترم الآخر وكيف يحترم نفسه، ويعرف أن العلم ليس ورقة اختبار بل فنّ العيش.
ذلك هو التعليم الذي نحتاجه: تعليمٌ يصنع إنسانًا قبل أن يصنع رقماً على دفترٍ صامت.