facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الغيرة وسوء الظن .. قراءة متأنية في قلب المرأة


د. جهاد يونس القديمات
13-12-2025 01:29 PM

تعيش المرأة لحظة الغيرة وكأنها تقف على حافة مشهد عاطفي يتغير أمامها بسرعة، فتمتد عيناها إلى التفاصيل الصغيرة، ويتسارع نبضها، وتبدأ أسئلتها الداخلية بالتكاثر، فالغيرة ليست مجرد شعور؛ إنها حالة ذهنية كاملة يتغير فيها إدراكها للواقع، وتصبح فيها التفاصيل البسيطة أكبر من حجمها، والكلمات العابرة أثقل من معناها الحقيقي، لكن حين تتداخل الغيرة مع سوء الظن، تصبح المعادلة أكثر تعقيدا، لأنها حينها لا تكتفي بقراءة اللحظة، بل تبدأ بنسج سيناريو كامل يبدو لها منطقيا، رغم أنه في كثير من الأحيان لا يستند إلى أساس حقيقي.

ما يجعل المرأة تقع أحيانا في هذا الفخ هو أن عقلها العاطفي يعمل بطريقة مترابطة، حيث يتم تخزين كل ذكرى وكل خيبة وكل موقف سابق في خلفية الوعي، وعندما تشعر بالتهديد العاطفي، يعود كل ذلك إلى السطح دفعة واحدة، فيربك قدرتها على اتخاذ القرار، وقد ترى المرأة ابتسامة عابرة أو انشغالا طارئاً أو اهتماما بسيطا، فتشعر أن في المشهد شيئا ناقصا، وهذا الشعور بالناقص هو الذي يفتح الباب لسوء الظن إذا لم تستطع السيطرة عليه أو لم تجد من يحتويه.

الغيرة بذاتها ليست خطأ، بل هي حاجة نفسية للدفاع عن العلاقة، لكن الخطر يبدأ عندما تستسلم المرأة للخيال وسوء الظن، وتبدأ في تفسير الأحداث وفق ما تخشاه وتتوقعه، لا وفق ما يحدث فعلا، وفي عالمنا اليوم، حيث ازدادت التعقيدات، وسهلت التكنولوجيا عملية المقارنة والتتبع والرسائل والظهور والاختفاء، أصبحت الغيرة أكثر حساسية، وسوء الظن هو الحالة السائدة في قلوب الكثير من النساء، الا من رحم الله.

في السنوات الأخيرة نشهد قصصا كثيرة تعكس هذا الارتباك في إدراك الواقع، فمثلا سقطت امرأة في دوامة سوء الظن لأنها شعرت بأن زوجها يطيل النظر في وسائل التواصل، ويضحك أحيانا على رسائل خاصة، ومع ضغط المشاعر وعدم قدرتها على التفكير الهادئ، اعتقدت أن الأمر مرتبط بامرأة أخرى، فبدأت تراقب هاتفه، وتفتش رسائله، وتربط بين أوقاته وتغيرات مزاجه، وفي النهاية، وعندما واجهته، اكتشفت أنه كان يشارك في مجموعة خاصة بأصدقائه القدامى من الجامعة، وأنه كان يجد فيها متنفسا للهروب من ضغوط الحياة، هنا كانت القراءة العاطفية أسرع من التأني، وكان سوء الظن أسرع من الاستماع.

في قصة أكثر ألما، اتخذت امرأة قرارا بخلع زوجها لأنها ربطت بين انشغاله المفاجئ وبين احتمال وجود شخص آخر في حياته، لاحظت أنه يتأخر في الرد، وأن صوته مرهق، وأن لقاءاته أصبحت أقل، لم تسأله مباشرة، بل واجهته اتهاما، لم تمنحه فرصة لتفسير ما يمر به، ولم تمنح نفسها فرصة لمعرفة الحقيقة، وبعد الفراق، اكتشفت أنه كان يمر بضائقة شخصية كبيرة، وكان يتردد من إخبارها حتى لا يثقل عليها، لكنه حين سمع كلماتها القاسية، شعر أن العلاقة لم تعد آمنة، وأن المكان الذي كان يبحث فيه عن السند أصبح مكانا للاتهام، ضاعت العلاقة قبل أن تظهر الحقيقة، وظلت الندامة تلاحقها لأنها دفعت أثمن ما تملك، فكسرت قلب من يحبها الى قطع متناثرة، يصعب جمعها.

التراث الإسلامي مليء بقصص تكشف الجانب الإنساني للغيرة عند المرأة، من أشهرها قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين كسرت الصحفة الغالية بدافع الغيرة، ورغم أنها كانت من أذكى نساء الأمة وأكثرهن فهما، إلا أن لحظة الغيرة أخذتها إلى فعل سريع قبل التفكير، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخها، بل قال: غارت أمكم، كان يريد أن يقول أن الغيرة طبيعية، لكنها تحتاج إلى حكمة في التعامل، وإلى قدرة على السيطرة حتى لا تتحول إلى سوء ظن أو اتهامات غير مبنية على الواقع.

هناك رواية أخرى عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها، التي كانت تدرك حساسية الغيرة بين زوجات النبي، فكانت تواجهها بالاسلوب اللطيف، فتهدي وتقترب وتلين، لتخفف من حدتها وتمنع سوء الظن، هذا السلوك العاقل يكشف أن المرأة قادرة على إدارة غيرتها بحكمة، وأن المشكلة ليست في الشعور، بل في اللحظة التي يتداخل فيها الخوف مع حوار الشيطان.

علميا، تظهر الدراسات أن دماغ المرأة في لحظات الغيرة ينشط في المناطق الخاصة بالذاكرة العاطفية والخيال وربط النقاط المتناثرة، ما يجعل المرأة أكثر قدرة على قراءة التغيرات الدقيقة، لكن هذه الميزة قد تتحول إلى عبء إذا ارتفع هرمون الكورتيزول المرتبط بالخوف والتوتر، مما يضعف القدرة على اتخاذ القرار المنطقي، عندها يصبح العقل أكثر قابلية للربط بين أحداث لا علاقة لها ببعضها، وتبدأ سلسلة سوء الظن في التوسع حتى تصبح قناعة، رغم أنها مجرد احتمال.

تشير الأبحاث إلى أن هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الارتباط) يجعل المرأة تشعر بأي تهديد للعلاقة على أنه تهديد لوجودها العاطفي الذي تعتمد عليه، لذلك تفسر بعض النساء أي تغير صغير في سلوك شريكهن على أنه بداية فقد، بينما قد يكون الأمر أبسط بكثير، ومن هنا يظهر أن المشكلة ليست ضعفا في العقل، بل حساسية في الربط، وارتفاعا في العاطفة، وحاجة إلى الاستقرار أكثر من حاجة إلى التأكد.

الواقع يؤكد أن الغيرة إذا لم تدار بشكل سليم تتحول من تعبير عن الحب إلى مصدر ضغط يفتت العلاقة ببطء سريعا، فالقرارات التي تتخذ تحت تأثير الغيرة وسوء الظن غالبا ما تكون قرارات مندفعة ومدمرة للاسرة، ولا تعكس العقل الحقيقي للمرأة، بل لحظة خوف داخلية، وقد بدأت الكثير من النساء في الاعتراف بهذا الأمر، خصوصا بعد تجارب طويلة في الحياة الزوجية، فصرن يقلن: لو أني انتظرت قليلا قبل أن أحكم، لأكشفت الحقيقة دون توتر، لكن بعد فوات الأوان، واستفذاذ كل الفرص، هذا الاعتراف يظهر إدراكا عميقا ومتأخرا بأن الغيرة ليست مبررا للحكم، وأن سوء الظن ليس دليلا كافيا على صحة الاستنتاج.

من المهم أيضا الاعتراف بأن الرجال يسهمون أحيانا وبدون قصد في تغذية سوء ظن المرأة، من خلال الغموض، أو الانسحاب العاطفي، أو إخفاء المعلومات الصغيرة، فالمرأة بطبيعتها تحتاج الوضوح والسكون، فإذا لم تجدهما، يبدأ ذهنها في ملء الفراغ بالخيالات بشكل لا يتصوره زوج، وهنا يصبح سوء الظن نتيجة منطقية لمعطيات غير مكتملة، وهذه نقطة حساسة، لأنها تجعل المسؤولية مشتركة وليست محصورة في المرأة.

أما الجرح الذي يصيب الشريك، فغالبا ما يكون أعمق من مجرد سوء فهم، الرجل حين يتهم بلا دليل يشعر بأن ثقته وصدقه ونواياه أصبحت موضع شك، يشعر أنه غير مقدر، وأن كل ما فعله سابقا لم يعد يعني شيئا، ومع الوقت يتحول هذا الجرح إلى شرخ داخلي، يجعل العودة للعلاقة ممكنة شكلا، لكنها مختلفة مضمونا، لأن الكلمات التي خرجت في لحظة الغيرة لا تختفي، بل تبقى كندوب داخل القلب، وفي علاقات كثيرة استمرت شكليا بعد كارثة سوء الظن، لكن الحب لم يعد كما كان، وربما اختفى تماما.

الندم هنا هو الجزء الأكثر إيلاما، الندم الذي يأتي بعد أن تهدأ العاصفة، وبعد أن تتضح الحقيقة، وتنكشف أن كل الظنون السيئة لم تكن سوى أوهام صنعتها العاطفة، تقف حينها المرأة أمام علاقة فقدت بريقها، أمام قلب انكسر، أمام رجل كان ينتظر منها أن تمنحه حسن الظن لا سيف الاتهام والقذف، والندم مهما كان صادقا، لا يعيد الزمن، ولا يعيد الكلمات إلى فمها، ولا يعيد الجرح إلى ما قبل حدوثه.

في نهاية المطاف، لا يهدف هذا الحديث إلى انتقاص قدر المرأة، ولا إلى القول إنها أقل حكمة من الرجل، بل على العكس تماما، الغيرة حين تتحول إلى سوء الظن لا تعبر عن ضعف، بل عن خوف عميق من فقد العلاقة، والمقال دعوة إلى أن تفكر المرأة قبل أن تغضب، وأن تتريث قبل أن تقرر، وأن تسأل قبل أن تسيء الظن، لأن الحقيقة غالبا أبسط بكثير مما تتخيله في لحظة الغيرة.

أما الرجل وأنا منهم، فعليه أن يعرف أن احتواء الغيرة لا يتم بالصد أو بالتهرب، بل بالطمأنينة والوضوح والشرح الهادئ، فالمرأة لا تحتاج دليلا ماديا دائما، بل تحتاج إلى كلمة من رجل قريب تطمئنها، كلمة من الأب او الأخ، وإلى تصرف يعيد الأمان إلى قلبها، وإلى وقت قصير تستعيد فيه توازنها.

الغيرة ليست عدوا، بل ناقوسا صغيرا يقول للمرأة إن هناك شيئا يقلقها، لكن سوء الظن، إذا استسلمت له، قد يتحول إلى هدم هادئ للعلاقة، وبين الاثنين خط رفيع لا تراه المرأة إلا إذا هدأت، ولا يفهمه الرجل إلا إذا صبر، وحتى تبقى العلاقة -ان استمرت- أقوى من لحظة غيرة، وعلى الطرفين أن يدركا أن الحكم السريع هو أسرع طريق للندم، وأن الحقيقة تحتاج دائما إلى ضوء، لا إلى عاصفة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :