الضمان الاجتماعي بين الاستقرار الحالي ومتطلبات الاستدامة
د. حمد الكساسبة
15-12-2025 02:01 PM
أعلنت المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي نتائج الدراسة الاكتوارية الحادية عشرة، في إطار المراجعة الدورية التي تهدف إلى تقييم قدرة النظام على الاستمرار في الوفاء بالتزاماته تجاه المشتركين والمتقاعدين على المدى الطويل. وتأتي هذه النتائج في مرحلة اقتصادية دقيقة، تتقاطع فيها الضغوط المالية مع التحولات الديموغرافية وتحديات سوق العمل، ما يجعل التعامل معها مسألة سياسات عامة، لا مجرد قراءة فنية لمؤشرات رقمية.
وتُظهر الدراسة أن الوضع المالي الحالي للضمان الاجتماعي يتسم بدرجة من الاستقرار، وأن الصناديق التأمينية قادرة، في المرحلة الراهنة، على تغطية التزاماتها، لا سيما في التأمينات قصيرة الأجل. ويعكس ذلك إدارة مالية متماسكة في الأمد القريب، ويوفّر هامشًا زمنيًا مهمًا لصنّاع القرار للتعامل الهادئ مع الاستحقاقات المقبلة.
غير أن هذا الاستقرار لا يمكن التعامل معه بوصفه ضمانة دائمة. فالدراسة تشير إلى أن الاشتراكات ستتساوى مع النفقات بحلول عام 2030، ثم تصبح الاشتراكات مضافًا إليها العوائد الاستثمارية غير كافية بعد عام 2038 إذا استمرت السياسات الحالية دون تعديل. وهي مؤشرات لا تعكس أزمة وشيكة، لكنها تنبّه إلى تضاؤل هامش المناورة وارتفاع كلفة الإصلاح كلما تأخر اتخاذ القرار.
وتبيّن الدراسة أن الضغوط الأساسية تتركز في تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة، نتيجة الارتفاع المستمر في أعداد المتقاعدين وطول فترة صرف الرواتب التقاعدية، مقابل تباطؤ نمو قاعدة المشتركين. ويعكس ذلك تحولات ديموغرافية طبيعية، إلى جانب اختلالات في سوق العمل، أبرزها اتساع الاقتصاد غير المنظم وضعف الشمول التأميني، ما يستدعي التفكير في صيغ اشتراك أكثر مرونة توسّع قاعدة المشتركين دون الإخلال بأسس النظام.
ويبرز التقاعد المبكر كأحد أهم مصادر الضغط على التوازن المالي للنظام، إذ يسرّع انتقال المؤمن عليهم من موقع المساهمة إلى موقع الاستفادة، ويؤدي إلى خروج مبكر لقوى عاملة ما تزال قادرة على الإنتاج. ورغم البعد الاجتماعي لهذا الخيار، فإن استمراره بصيغته الحالية يستدعي مراجعة تدريجية توازن بين حماية الأفراد ومتطلبات الاستدامة.
ولا يقتصر دور الضمان الاجتماعي على كونه نظامًا تقاعديًا، بل يشكّل عنصرًا أساسيًا في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فمدفوعاته المنتظمة توفّر دخلًا ثابتًا لشريحة واسعة من الأسر، وتسهم في دعم الطلب المحلي، بما يخفف من آثار التباطؤ الاقتصادي ويعزّز التماسك الاجتماعي.
وفي الإطار الإصلاحي، لا يقتصر التعامل مع تحديات الضمان على قرارات مالية أو تشريعية معقّدة فحسب، بل يشمل أيضًا إصلاحات تشغيلية يمكن البدء بها فورًا. فتوسيع الشمول التأميني، وتعزيز الالتزام، والحد من التهرّب التأميني، تشكّل أدوات مباشرة لتحسين الإيرادات وتقوية التوازن المالي، وتخفيف الحاجة إلى إجراءات أكثر كلفة في مراحل لاحقة.
وتؤكد التجارب الدولية أن الإصلاحات المبكرة والمتدرجة أكثر قابلية للإدارة وأقل كلفة من الإصلاحات المتأخرة التي تُفرض عادة تحت ضغط مالي أو اجتماعي، إذ يتيح التعامل المبكر مع التحديات خيارات أوسع وكلفة سياسية واقتصادية أدنى.
ختامًا، يقف الضمان الاجتماعي في الأردن أمام استحقاق استدامة قابل للإدارة إذا ما أُحسن التعامل معه في الوقت المناسب. فالاستقرار الحالي يمثل فرصة، لكنه لا يغني عن مسار إصلاحي متدرج يعالج مصادر الضغط قبل تفاقمها. فاستدامة الضمان ليست مسألة مالية فحسب، بل خيار سياساتي يرتبط بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل.