"مخالفات السير" .. قانون مروري أم أزمة اجتماعية صامتة؟
فيصل تايه
28-12-2025 11:32 AM
لم تعد مخالفات السير مجرد إجراء قانوني يهدف إلى ضبط السلوك المروري، بل تحولت إلى عبء ثقيل يلامس حياة الناس في تفاصيلها اليومية، ويضغط عليهم في لحظة هم أصلاً مثقلة بالضيق ، فلم يعد الحديث عنها تذمراً عابراً ولا اعتراضاً على فكرة النظام، بل صار تعبيراً صريحاً عن شعور واسع بأن الغرامة لم تعد تشبه دخل المواطن ولا واقعه، وأنها خرجت من إطار الردع إلى مساحة الاختناق.
لا يمكن للمواطن ان يطلب الفوضى ، ولا يمكن ان يرفض القانون، بل على العكس، هو أكثر من يدرك خطورة الطريق وأهمية الالتزام ، لكنه اليوم يجد نفسه أمام معادلة قاسية ، فمخالفة واحدة قد تعادل مصروف بيت ، أو فاتورة أساسية، أو التزاماً لا يحتمل التأجيل ، ومع تكرار المخالفات أو تراكمها، يتحول الأمر من رقم يدفع إلى أزمة تعاش، قلق دائم ، وحسابات لا تنتهي، وشعور بالعجز أمام واقع لا يترك مساحة للاختيار.
من هنا بدأت تظهر ملامح ظاهرة مقلقة في الشارع ، مواطنون يؤجلون ترخيص مركباتهم ، لا استخفافاً بالقانون ولا رغبة في المخالفة، بل لأنهم ببساطة لا يملكون ثمن المخالفات المتراكمة ، والبعض يعيش حالة خوف دائمة من التوقيف، والبعض الآخر يقود وهو يشعر أن القانون أصبح عبئاً يطارده، بلا مظلة تحميه.
هذا وحده كاف ليجعلنا نتساءل : هل ما نراه اليوم مجرد قضية مرورية، أم أزمة اجتماعية تتشكل بصمت؟
فهذا الشعور لم يعد فردياً ولا معزولاً ، بل بات لغة يومية في الشارع، وفي المجالس، وعلى مواقع التواصل ، بعبارة واحدة تتكرر بصدق: "نحن مع القانون، لكننا لم نعد قادرين" ، فعندما يشعر المواطن أن الغرامة لا تميز بين من يملك القدرة ومن يكافح لتأمين أساسيات حياته، فإن الإحساس بالعدالة يبدأ بالاهتزاز، حتى لدى أكثر الناس التزاماً واحتراماً للنظام.
الأخطر أن هذا الواقع لا ينعكس على المواطن وحده، بل على المجتمع بأكمله ، ازدياد في عدد المركبات غير المرخصة، تأمين غائب، توتر دائم بين المواطن ورجل السير، ومسافة نفسية تتسع بين الناس والمؤسسات ، وهنا تتحول المخالفة من أداة تنظيم إلى عامل ضغط اجتماعي صامت، يضعف الثقة، ويخلق حالة من الانفصال بين النص القانوني والواقع المعيشي.
العقوبة، في جوهرها، يجب أن تكون رادعة وعادلة وقابلة للتنفيذ ، فإذا فقدت واحدة من هذه الركائز، فقدت معناها ، فالغرامة التي لا يستطيع المواطن دفعها لا تردعه، بل تدفعه إلى التأجيل، وربما إلى الهروب من المنظومة كلها ، وهنا تصبح المشكلة أعمق من مخالفة، وتتحول إلى أزمة فلسفة في تطبيق القانون.
ما يحتاجه هذا الملف اليوم ليس إنكاراً ولا تشدداً أعمى، بل مراجعة واعية وشجاعة، تعيد التوازن بين حماية الأرواح على الطرق، وحماية كرامة المواطن وقدرته على العيش ، وحلول تراعي الواقع، مثل المرونة في السداد، أو آليات أكثر عدالة، لا تعني التهاون، بل تعني تعزيز الالتزام الحقيقي، لا القسري.
صوت الشارع في هذه القضية نداء صادق لإعادة النظر ، فالدولة القوية لا تقاس فقط بصرامة قوانينها، بل بقدرتها على فهم ناسها، والاستماع لهم، وصياغة تشريعات تحمي النظام دون أن تكسر الإنسان ، لأن القانون الذي يرهق الناس، يفقد احترامهم، أما القانون الذي يشعرون بعدالته، فيلتزمون به طوعاً، لا خوفاً.
والله ولي التوفيق