facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




أَعيرونا صمتكم


د. عبدالهادي القعايدة
14-09-2025 10:20 PM

ثمة ظاهرة تتكرر في الحياة العامة تستدعي التوقف عندها، وهي أن بعض المسؤولين، ما إن يغادروا مواقعهم حتى يتحولوا فجأة إلى "خبراء" في التشخيص و"نُصحاء" في التوجيه، وكأنّهم لم يكونوا جزءًا من المشهد الذي يصفونه اليوم بالخلل أو القصور.

المفارقة أن هؤلاء كانوا يمتلكون – نظريًا على الأقل – أدوات القرار وسلطته، لكنهم لم يستخدموها في وقتها، ولم يبادروا إلى الإصلاح حين كانت الفرصة سانحة. ثم يطلّون بعد مغادرتهم المنصب ليقدّموا قراءات متأخرة، لا تغير من الواقع شيئًا سوى أنها تثير تساؤلات الناس: لماذا لم تُقال هذه الحقائق وهم في موقع المسؤولية؟ ولماذا تأخروا حتى أصبحت كلماتهم مجرد ترفٍ خطابي؟

الأكثر إيلامًا أن بعضهم يتعامل مع المنصب وكأنه "حق شخصي" لا وظيفة عامة مؤقتة، فيسعى إلى تبرير وجوده السابق بالدفاع عن "استحقاقه" له، متجاهلًا أن الوصول إلى المناصب في الغالب لم يكن نتاج منافسة شفافة أو كفاءة استثنائية، بل نتيجة موازين ظرفية وعلاقات ومساومات. وهنا تتضاعف الفجوة بين ما يدّعونه اليوم وبين ما عايشه الناس من نتائج قراراتهم بالأمس.

ولعلّ السؤال الأكثر وجاهة الذي يطرحه الناس اليوم: هل سمعتم يومًا أن أحد أبناء الذوات تقدّم بطلب إلى ديوان الخدمة المدنية، أو عمل معلمًا في وزارة التربية، أو اقتدى بالأمراء الذين خدموا في القوات المسلحة بصدق وانضباط؟ أم أن هذه الأبواب ظلت مفتوحة فقط لعامة الناس، بينما ظلت النخب في أبراجها العالية، لا تنزل إلى ميدان الخدمة العامة إلا عبر المناصب الرفيعة والمواقع المحسوبة؟.

وزيادةً على ذلك، فإن كثيرًا من أبناء الذوات يشقّون طريقهم عبر أرقى الجامعات العالمية – من هارفارد إلى أوكسفورد – ثم يعودون ليجدوا الوظائف المرموقة في انتظارهم، كأنها جزء من "الباقة التعليمية" التي تبدأ ببعثة وتنتهي بكرسي رفيع في مؤسسات الدولة. المفارقة هنا ليست في حقهم بالتعليم، بل في غياب تكافؤ الفرص بين من يقطع سنوات في طوابير البطالة بانتظار دورٍ في ديوان الخدمة، ومن يجد الباب مشرعًا أمامه لمجرد أن اسمه العائلي يكفي لفتح الأبواب الموصدة.

ولعلّ الأدهى من ذلك أن هؤلاء لا يختبرون يومًا معنى الكدح في وظيفة بسيطة أو خدمة عامة متواضعة؛ فلم نسمع عن واحدٍ منهم عمل عامل وطن يلتقط أنفاسه مع شروق الشمس، أو ممرضًا في مستشفى حكومي أو عسكري يتقاسم مع الناس آلامهم وأوجاعهم. وحتى حين يتعلق الأمر بالصحة، فإن سؤال الناس يظل حاضرًا: هل يتعالجون في مشافي الوطن كما نفعل نحن، أم أن تلك المرافق لا تناسب بشرتهم المشبعة بالرفاه، فيشدّون الرحال إلى الخارج عند أول عارضٍ صحي؟.

إن الوظيفة العامة ليست إرثًا عائليًا ولا امتيازًا مكتسبًا، وإنما تكليف وطني مؤقت، يُقاس بميزان الإنجاز لا بوزن الشعارات. ومن لم يقدّم إنجازًا يُذكر، فإن محاولاته اللاحقة للتنظير لا تضيف إلى رصيده شيئًا، بل تُعمّق صورة العجز في ذاكرة الناس.

إن صمت المسؤول السابق – متى كان عاجزًا عن الاعتراف بأخطائه – هو موقف أكثر احترامًا من أي تنظيرٍ متأخر. فالمجتمع لا يحتاج إلى كلمات تُقال في غير وقتها، بقدر حاجته إلى أفعالٍ تتحقق حين يكون القول مقرونًا بالفعل والقرار بالمسؤولية.

لذلك، فإن الرسالة الأصدق التي يمكن أن يوجّهها هؤلاء المسؤولون إلى الناس بعد مغادرتهم مناصبهم، هي أن يتركوا المجال لأصوات جديدة وتجارب مختلفة، وأن يقدّموا لنا خدمة واحدة أخيرة: أعيرونا صمتكم.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :