تخلف منظومة النقل الجماعي في الأردن تطرد الاستثمار والسياحة
أ.د. محمد الفرجات
30-09-2025 02:29 PM
يعاني الأردن منذ عقود من معضلة كبرى اسمها النقل الجماعي، وهي معضلة لم تعد ترتبط فقط بانتظار الركاب لساعات طويلة، أو بالازدحامات الخانقة، أو بالمخالفات المرورية القاتلة، بل تحولت إلى عائق استراتيجي أمام التنمية، وجذب الاستثمار، وتنشيط السياحة، وتنفيذ خطط التحديث والإصلاح.
واقع مرير وعشوائية مدمرة
ما يزال تشغيل الحافلات (الكوستر والباصات الكبيرة) يتم بطريقة تقليدية، حيث تدار من قبل المالكين بشكل فردي، دون التزام يذكر بالضوابط أو المواعيد. النتيجة واضحة للجميع:
سائقي حافلات غير مرخصين أو يقودون بسرعات جنونية.
تحميل ركاب فوق السعة القانونية أحياناً بالضعف.
تدافع عشوائي وخطورة دائمة على الأرواح.
حافلات قديمة، ممزقة المقاعد، ينعدم فيها الذوق العام والنظافة.
غياب المواعيد الدقيقة، فلا يدري الراكب متى يصل الباص أو متى ينطلق.
هذا الواقع خلق عزوفاً شعبياً واسعاً عن استخدام النقل الجماعي، رغم الحاجة الماسة له، ودفع المواطن نحو التكاسي أو السيارة الخاصة، بما يضاعف كلف النقل على الأسر، ويرفع فاتورة الوقود، ويزيد التلوث والازدحام والحوادث.
أين نحن من العالم؟
في دول العالم المتقدمة، بل وحتى في معظم دول العالم الثالث، يدار النقل الجماعي بنظام ذكي ودقيق:
حافلات حديثة واسعة ومريحة.
ترددات منظمة بالدقيقة.
محطات توقف عصرية مزودة بشاشات توضح موقع الحافلة ووقت وصولها.
تحصيل إلكتروني للأجرة وتحليل للبيانات لتطوير الخدمة.
التزام بالسلوكيات العامة، فلا تدخين ولا استهتار بحياة الركاب.
أما في الأردن فما زلنا نسمح بالعشوائية والفوضى، ونغض الطرف عن نظام عمره نصف قرن أثبت فشله، فيما دول المنطقة والعالم تتسابق لتبني النقل الجماعي الذكي كأداة للتنمية المستدامة.
قرار يتنقل بين الحكومات ولا يُنفذ
وضعت وزارة النقل في السنوات الماضية خططاً لتنظيم هذا القطاع المبعثر، وطرحت فكرة دمج الخطوط في شركة واحدة تتكفل بتشغيل الحافلات وفق أنظمة عصرية، لكن القرارات بقيت حبيسة الأدراج. كذلك أطلقت أمانة عمان مبادرة الدفع الإلكتروني، وهي خطوة ذكية نحو النقل الجماعي الحديث، لكنها ما زالت محدودة في العاصمة ولم تُعمم على باقي المحافظات.
فمن المستفيد من إبقاء الوضع كما هو؟ ولماذا نتحدث في المؤتمرات عن التحديث، فيما لا تستطيع مسنة النزول بأمان من حافلة عشوائية لتلقى حتفها تحت عجلات مركبة؟
الدمج والتحديث… فرصة تاريخية
إن دمج الخطوط ضمن شركة واحدة، مع إدخال التكنولوجيا، سيحقق:
تحويل الكوستر تدريجياً إلى حافلات حديثة مريحة وآمنة.
تدريب السائقين والالتزام بالهندام الرسمي والمسؤولية.
مراقبة بالكاميرات وضبط للجودة والانطلاق والوصول وفق خطة وقتية دقيقة.
محطات توقف حضارية وآمنة.
تقليل الازدحام إذ تحل الحافلة مكان 50 سيارة.
خفض الحوادث والتلوث والضجيج، والمساهمة في الحد من التغير المناخي.
تعزيز الإنتاجية بتسهيل تنقل الطلبة والموظفين والأسر.
جذب السياحة والاستثمار، فالزائر لا يقبل بدولة بلا منظومة نقل محترمة.
تحسين الاقتصاد الأسري بخفض كلفة النقل.
أنظمة التتبع والدفع الإلكتروني… عصب النقل الذكي
إدخال أنظمة التتبع المرتبطة بالدفع الإلكتروني يمثل نقلة نوعية في إدارة النقل الجماعي، حيث يتيح:
معرفة دقيقة لعدد الركاب في كل رحلة، بما يمنع التحميل الزائد.
تسجيل وقت الانطلاق والوصول بدقة، بما يضمن التزام السائق بالمواعيد.
تحديد التوقفات عند المحطات الرسمية فقط، ومنع التوقفات العشوائية.
مراقبة السرعة والسلوك المروري للسائق لحظة بلحظة، ما يقلل من المخاطر والحوادث.
إدارة البيانات مركزياً عبر غرفة عمليات، لاتخاذ قرارات فورية بإرسال حافلات إضافية عند الذروات.
توزيع الحافلات بكفاءة على المسارات الأكثر ازدحاماً، استناداً إلى بيانات الاستخدام.
رفع مستوى الأمان للركاب من خلال التوثيق والرقابة المستمرة.
توفير شفافية مالية عبر ضبط الإيرادات إلكترونياً دون تلاعب أو هدر.
إتاحة تطبيقات ذكية للركاب لمعرفة وقت وصول الحافلة بدقة، والتخطيط المسبق للرحلات.
هذه التقنيات تجعل من النقل الجماعي الأردني منظومة ذكية متكاملة، تحاكي أفضل الممارسات العالمية، وتحوّل التحديات الحالية إلى فرص حقيقية للتنمية.
لماذا هو قرار وطني لا يحتمل التأجيل؟
النقل الجماعي ليس رفاهية، بل بنية تحتية سيادية تمس حياة المواطن اليومية، وملفاً استراتيجياً له أثر مباشر على الاقتصاد الوطني، وسمعة الدولة، وفرص السياحة والاستثمار، ومستقبل التحديث.
إن التأجيل والمماطلة في معالجة هذا الملف يكلف الأردن يومياً ملايين الدنانير في الوقود والحوادث والتلوث، ويكلفه صورته أمام السائح والمستثمر، ويعطل أحلامنا بمدن وقرى ذكية.
لقد آن الأوان أن نمتلك الشجاعة ونمضي نحو دمج وتحديث منظومة النقل الجماعي، بخطة واضحة، وحوافز للمالكين، وتدرج مدروس، مع الحزم في التنفيذ. من دون ذلك، سيبقى النقل الجماعي في الأردن جرحاً مفتوحاً يعيق التقدم ويطرد الاستثمار والسياحة.