في ذكرى وفاته - بصمات وطنية لأب راحل
محمد الوشاح
27-10-2025 11:29 AM
في بداية طفولتي كان والدي رحمه الله جنديا في الخطوط الأمامية الأولى بالقدس ورام الله ونابلس وقلقيلية .. وقد شاءت العناية الالهية أن ينجو لعدة مراتٍ من صليات الرصاص التي كان يطلقها العساكر الصهاينه تجاه النقاط الاردنية المتقدمة التي كان يرابط فيها والدي مع رفاقه في السلاح .. وبعد ان أنهى خدمته التطوعية في الحرس الوطني التحق بالأمن العام لعدة سنوات ، فخدم في الخمسينات في عهد ثلاثة ملوك هاشميين عبدالله الاول وطلال والحسين طيب الله ثراهم .. ولا زلت احتفظ في ذاكرتي ببعض القصص التي كان يرويها عن شجاعة الملوك الثلاثة خلال تفقدهم للقطاعات العسكرية الأردنية المتقدمة .. ثم انتقل في أواخر الخمسينات لدائرة الجمارك حيث عمل في مراكزها بالرمثا وعمان والسلط وجسر الملك حسين لأكثر من ثلاثين عاماً .. ولم أذكر في حياتي أنه تلقى هدية لقاء خدماته في المراكز الجمركية الحدودية وغير الحدودية .. بل كنا نراه مبتهجاً عند عودته للبيت لقاء قيامه بمساعدة مراجعين في مراكز عمله .
كان دخله الشهري رحمه الله محصوراً فقط براتبه المحدود ، واذا طرأت زيادة على إحدى الفواتير الشهرية إختلت معادلة تصريف الراتب ، فيكون التعويض عن ذلك بتقنين المشتريات البيتية والمستلزمات المعيشية الضرورية .
وفي حرب حزيران 1967 التي ألحقت أكبر نكسة للأمة العربية ، كان والدي يتمنى لو بقي جندياً ليقوم بواجبه في الدفاع عن الاردن وفلسطين ، حيث واكب بتوتر شديد وقائع ومجريات تلك الحرب لحظة بلحظة ، وأذكر أنه يوم السابع من حزيران أي ثالث أيام الحرب قمتُ بمساعدته بدفن شهداء الجيش العراقي في مقبرة الجادور بعد أن تعرّضت قافلتهم العسكرية المتجهة الى الضفة الغربية لغارة جوية في وادي شعيب حيث قام بنقلهم من موقع الغارة الى المقبرة ، كما قدّم بيته في السلط كقاعدة للفدائيين عقب معركة الكرامة ، وسكن في البيت ياسر عرفات ورفاقه لنحو سنتين مجاناً ، وحينما التقيت ابا عمار رحمه الله في مكتبه برام الله عام 2004 سرد لي الكثير من ذكرياته في السلط ومع الوالد بالذات ، وحمّلني سلاماً ودعوة مفتوحة له لزيارته في مقره بالمقاطعة في رام الله .
وهكذا أمضى والدي رحمه الله سبعة وثمانين عاماً من عمره وطنياً صادقاً ، طاهر القلب وعفيف النفس ونقي اليد وملتزماً بقراءة القرآن ومؤديا للفرائض الخمس .. عمل لآخرته بطاعة ربه ووالديه ، كما عمل لدنياه في عمل الخير وإصلاح ذات البين ، حتى اعتاد أهل السلط والبلقاء على حضوره الدائم في العطوات والجاهات والصلحات العشائريه ومختلف المناسبات .
وفي سنواته الأخيرة كان يتألم لعدم مقدرته على مشاركة الأقرباء والأصدقاء في أفراحهم وأتراحهم بعد أن أقعده المرض ولزم الفراش ، لكنه كان حريصاً على متابعة الأخبار السياسية من خلال المذياع الذي لازمه ولم يفارقه لحظة واحدة ، وأكثر ما كان يؤلمه الاقتتال بين الأشقاء العرب وأن يُقتل عربي بسلاحٍ عربي .
وبمناسبة ذكرى مرور ثلاثة عشر عاماً على وفاة والدي الحاج عبدالفتاح محمود الوشاح التي تصادف يوم السابع والعشرين من شهر تشرين أول ، لا يسعنا إلاّ أن ندعو له بالمغفرة ، سائلين الله عزّ وجلّ أن يرحمه ويرحم والدتي ، ويغفر لهما ويسكنهما جنات النعيم ، وينزل على قبريهما الضياء والنور – يا رب العالمين .