"الملجأ" و"حمّام الهنا" تتوّجان مشاركة أردنية لافتة في قرطاج
25-11-2025 05:06 PM
عمون - التوق إلى الحرية والانتصار للكرامة الإنسانية شكّلا العنوانيْن الجامعيْن للعرضيْن المسرحيين الأردنيين "الملجأ" و"حمّام الهنا" اللذين يشاركان في فعاليات الدورة 26 من مهرجان أيام قرطاج المسرحية المقامة تحت شعار "المسرح نبض الشارع"، وسط مشاركة عربية وإفريقية واسعة.
وبحسب متابعين لفعاليات الدورة التي تأتي وسط مختلف الظروف العربية الراهنة في فلسطين ولبنان والسودان، فإن مسرحية "الملجأ" رؤية وإخراج سوسن دروزة عن نصٍّ لِنجيب نصير، مرشحة فوق العادة للمنافسة بقوة على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان المسرحيّ العربيّ العريق.
وراكمت مسرحية "الملجأ" مردودَها الدلاليّ والجماليّ والأدائيّ الموشّح بِسينوغرافيا بصريّة شيّدَ المخرج إيهاب الخطيب مِعمارَها، بإيقاعٍ حيويٍّ صعَدَ وخَفَتَ بحسب وقائع الدراما ومُوجبات اللحظة المتعيّنة فوق الخشبة. إنها المُراكمةُ الموجّهةُ لِجهةِ غايات العرض الكبرى، حيث حارس المدينة/ المسرح (أدى المنذر خليل مصطفى الدور باقتدار)، ينير مصابيح الشوارع والحارات، ويذكّرنا بـ (المشعلجي عند المصريين والدُّومري عند الشوام) الذي كان ينير حارات القاهرة والشام وباقي العواصم أيام زمان. وحيث تدويّ وسط الإيقاع المتحوّل المتبدّل المترافق مع أداءٍ عفيِّ الحَجَلِ قويِّ التَّمَثُّل، أصواتُ قصفٍ لا يتيح للأشخاص الضائعين فوق المنصة اللائذين بالمسرح بوصفه ملجأَ الواقع أو ملجأَ التعبير عنه، فرصة التقاط الأنفاس بين عرضٍ مسرحيٍّ آفِلٍ وآخر.
يضيع الممثلون في لعبة تداخل المشاهد بين عديد الأعمال المسرحية العابرة للقارات والحضارات، يفقدون مرشد هواياتهم، ودليل أدائهم تحت القصف. مجسّاتهم تتحوّل إلى كمائن غرائزية للهروب أو التشظّي. المدينة/ المسرح غارقة في الليل، العمل الليلي على أشدّه قصفًا أو بوحًا أو كلاب حراسة. الذاكرة تذوب في راهنيةِ المِطحنةِ التي تدوّخ فُرصَ التّلقي... تدريجيًا يتورّط المتلقّون فوق مقاعدهم بالحيلةِ التي اختارتها دروزة؛ متاهة الأحداث على حساب حدثٍ دراميٍّ متصاعدٍ مضبوط الإيقاع محكوم المصير، فالمدينة/ الأمكنة جميعها خارج إمكانيات الضبط، والمصائر معلّقة فوق مشانقِ القاذفات الحربيّة الجويّة، والجميع يبحث عن ملجأ/ جدار أخير.
في مسرحية "الملجأ" التي أشرف المخرج الحاكم مسعود على ورش تدريب الممثلين فيها، يتجلى التداخل بوصفه سمةً رئيسيةٍ من سمات العرض الذي أنتجه "المعمل 612"؛ نوفل حارس المدينة/ المسرح/ الدومريّ يتداخل دوره فجأة مع دور مدير المسرح، يتداخل ويصبح مقتنص فرصةِ أن ينسى ممثل من الممثلين دورَه في العرض المسرحيّ، ينسى نفسه ويتداخل مع وظيفة صانع النجوم، أو ضابط إيقاع الفوضى ومهندس الشتات. يتداخل دور الراقصة شهلا (أدت دورها بطزاجةٍ لافتة الممثلة سنابل ضمرة) مع فتاة باحثة عن ملجأ في التمثيل بديلًا عن ضياعها في أحابيلِ المدينة وخبرتها بسجونِها. جواد (أدى دوره يوسف الشوبكي) يتداخل دوره بوصفه نجمَ تمثيل معروف مع شخصيةٍ متعثّرةٍ لا تكاد تعرف ماضيها من حاضرها.
إن عرض "الملجأ" هو بكل بساطة مساحة للتأويل، أطروحةٌ فلسفيةٌ حول الكيْنونة "أن نكون أو لا نكون"، فرجةٌ شعبيةٌ تطير خلالها (البَلالين) مالئةً السّما بلون الدم، فكرةٌ تجريديةٌ حول أقصرِ الطُّرق للدورانِ المُنكفئ إلى العدم، تراجيديا تصبّ في أوعيةٍ تقطّعت أيدي من كانوا يحْملونها بانتظار الدّور. تحوّلاتٌ مُتتاليةٌ متراكمةٌ تنفجر في قلبها الإبادة الجماعية بحقِّ غزّة، وتجعل من العام 1948 بدايةَ حقبةٍ من "الرّعبِ والوحشيّةِ القائمةِ على إرهابِ سكّان المسرح الأصليين... حقبةٌ مُظلمة، تحطّمت خلالها أركان المسرح وديكوراته... تشرّدت النصوص والأَراشيف... واستوْطنت الفِرَقُ الدخيلةُ كلَّ زاويا المكان".
في إطار التّرميز الذي اختارته دروزة رؤيةً إخراجيةً للتعريف بتاريخ القضية وأنها لم تبدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تمرّ حوارات العرض على مرحلة تزوير الخرائط وتلْفيق التاريخ: "قامت الفرقُ الدخيلة بتزويرِ مجموعة من الوثائق أهمها وثيقةِ أبعادِ المسرح وأساساتِه، مدّعين أن المسرح هو ملكٌ لهم منذ حقبةِ ما قبلَ الميلاد"، ومرحلة الاغتيالات: "قامت الفرقُ الدخيلةُ باستهدافِ فنّاني الفرقة الأصلية المبدعين المناضلين فردًا فردا، وتصفيتِهم".
من فكرةٍ أشعلتها سوسن دروزة جرت صياغة النص وفْق ورشةِ عملٍ جماعيّة، لِيحملها إيهاب الخطيب بحدبهِ ومقترحاتهِ السينوغرافيّة (المؤثّثات من اكْسسوارات وغيرها متاحةٌ في متناول الشّخوص، المداخل في عمق المنصة موظّفة ومتحوّلة [مرّة سجن، ومرّة مساحة فضول وثالثة منبر إلقاء وهلمّ جرّى]، التقطيع بسيط ومحمّل بِالدلالات)، ويضيء محمود المجالي دروبَها بإضاءةٍ صمّمها بمراوحةٍ بين واقعيّة العدوان اليوميّ المتواصل، وإيمائيّة الفكرِ الفنّيِّ الدراميّ، ليصبح بين يدينا، أخيرًا، عملٌ مسرحيٌّ طالعٌ من أوجاعِ الناس في زمن العدوان، وَبقايا الصّور الراسخة في الذاكرة، وَقناديل الشوارع العَتيقة.
في سياق متّصل، ومنفصل، لا تخلو مسرحية "حمام الهَنا" التجريبية فكرة وإخراج هشام سويدان، من النوازع الدرامية الملحمية نفسها التي هَجَسَت بها مسرحية "الملجأ": سؤال الحرية، سؤال الكرامة الإنسانية، الإسقاطات السياسية والمعرفية والوجودية.
شارك في "حمّام الهنا" تمثيلًا: سيف المشاقبة، مثنى الزبيدي، عمر أبو غزالة، أحمد إسماعيل، كريم كرم ويزن عيد. وصمّم إضاءتها ماهر جريان.
التأليف الموسيقي لعامر عبدالله، والسينوغرافيا للمخرج نفسه هشام سويدان الذي ساعدته في إخراج العرض فرح نصار ومعها محمود خواجا.