السردية الأردنية: من الحكاية إلى الوعي
مالك العثامنة
08-12-2025 12:16 AM
في كل بلد قصة، لكن ليس كل بلد يعرف كيف يسمع قصته كما هي، وقد مر الأردن بمحطات كبيرة، ونجا من محيط مضطرب، وبنى دولة قادرة على الاستمرار في ظروف صعبة، وصار بحاجة إلى إعادة إنتاج سرديته الجامعة التي تفسر ذاته لنفسه قبل أن يفسرها للعالم، وهذه ليست مسألة تجميل للواقع، بل هي سؤال جوهري عن المعنى، لأن المجتمعات لا تعيش بالحقائق وحدها، بل بالحكايات التي تنظم تلك الحقائق وتمنحها اتجاهاً.
مفهوم السردية ابتداءً، لم يولد في السياسة، بل في الأدب، وقد ظهر تاريخياً عندما حاول النقد الحديث فهم الحكاية من الداخل، وكيف تصبح طريقة رواية الحدث أهم من الحدث نفسه، ومن باب الفلسفة، وخصوصاً من مدرسة فيينا، خرج السؤال الذي غير فهمنا للغة والواقع معاً، من خلال طرح تساؤل: هل الكلمات تكشف الحقيقة أم تصنعها؟ هذا التحول الفكري جعل السردية أداة أساسية في فهم المجتمعات، لأن الوعي العام لا يتشكل فقط بما يحدث، بل بالطريقة التي نفسر فيها ما يحدث.
الأردن يمتلك عناصر سردية غنية، من تاريخه الاجتماعي والسياسي، إلى دوره الإقليمي، إلى تجربة بناء الدولة وسط شح الموارد، لكن ما ينقص هو الإطار الذي يجمع هذه العناصر في قصة مفهومة ومتوازنة وقادرة على العبور بين الأجيال، وقد قدم الخطاب الرسمي سرداً وظيفياً لسنوات، لكنه لم يتحول إلى حكاية يعيشها الناس كما هي، بقلقها وأملها وتنوعها، والنتيجة كما نراها اليوم: جيل يتحرك في فضاء رقمي مفتوح، يبحث عن معنى ولا يجد سردية محلية تشرح له ذاته وهويته وواقعه.
طريق السردية يبدأ من التعليم قبل أي شيء آخر، تعليم يعيد للطالب القدرة على التفكير، ويحرره من ثقافة التلقين ومن روايات جاهزة تقدم الماضي كأنه يقين نهائي.
لا يمكن بناء سردية وطنية في بيئة مدرسية عاجزة عن إنتاج عقل نقدي، أو مناهج ما تزال تتعامل مع التاريخ والهوية بوصفهما شعارات.
البداية الحقيقية هي إصلاح عميق للمنظومة التعليمية، من الطفولة حتى الجامعة، بحيث يصبح العقل المؤهل للفهم هو البطل الأول للسردية الجديدة.
والطريق يمر أيضًا بالإعلام، لكن الإعلام الصحي لا ذلك الممسوخ الذي امتلأ لسنوات بخطاب ديني شعبوي، أو وطنيات متطرفة تحولت إلى شعوذة فكرية.
الإعلام الذي يرسخ الوعي لا يصنع دجلاً، ولا يبيع أوهامًا، ولا يرفع صوت الكراهية بدلاً من المعرفة. إعادة تأهيل الجسم الإعلامي اليوم ضرورة، ليس لإعادة إنتاج الخطاب الرسمي، بل لبناء مساحة نقاش عقلانية يستطيع المجتمع من خلالها رؤية نفسه بلا ضجيج ولا تهويل.
السردية الأردنية لن تولد من قرار إداري، بل من تحويل المعرفة إلى ثقافة عامة، وحين ينهض التعليم والإعلام بدورهما، تصبح الحكاية الأردنية قابلة للفهم، وقادرة على أن تعيش، والأهم أن تكون قادرة على أن تنتشر.
"الغد"