عقيدة ترامب1 ومبدأ مونرو 2: الانكفاء الأميركي وتداعياته على الدول العربية
د. منذر الحوارات
16-12-2025 01:38 PM
«من خلال التخطيط للخروج البارع من هذا النوع من الهيمنة، يمكن لإمبراطورية أن تطيل من أمد بقائها.. ليس هناك أفضل بالنسبة لأميركا من تهيئة العالم لاحتمال زوالها»، بهذه الفكرة المكثفة لخّص أندرو باسيفيتش، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن، جوهر التحول في التفكير الإستراتيجي الأميركي، حين تساءل عام 2009: ماذا حققت الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ ثمانينيات القرن الماضي؟ ولماذا لم تُوظَّف الموارد الهائلة التي أُنفقت في العراق وأفغانستان في فضاء جغرافي أكثر أهمية للأمن القومي الأميركي، مثل المكسيك وأميركا اللاتينية؟
هذا السؤال لا ينتمي إلى رفّ التنظير الأكاديمي فحسب، بل أصبح اليوم مدخلاً لفهم عقيدة ترامب، بوصفها تعبيراً صريحاً عن مراجعة أميركية عميقة لتجربة التدخلات الخارجية المكلفة، وعن قناعة آخذة في الترسّخ داخل النخبة الأميركية بأن التمدد العسكري في الجغرافيا البعيدة لم يعد ضمانة لاستمرار الهيمنة، بل بات أحد أسباب الإنهاك والتراجع، فأمريكا باختصار لم تكن بحاجة إلى انتصار في الشرق الأوسط، بل كل ما احتاجته هو إغراق هذا الشرق في الفوضى، التي تمنعه من إعادة تشكيل قوة تشكل تحدياً لها، كما في أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هذا المنطق ليس جديدًا في التاريخ الأميركي، فقد ظهر لأول مرة عام 1823، عندما أعلن الرئيس الأميركي الخامس جيمس مونرو والذي عُرف لاحقاً بـمبدأ مونرو، رداً على مخاوف واشنطن من عودة الاستعمار الأوروبي إلى أميركا اللاتينية بعد حروب الاستقلال، يومها اعتبرت الولايات المتحدة قارتي الأميركيتين مجال نفوذ حصرياً لها، مقابل التزامها بعدم التدخل في الشؤون الأوروبية، كان ذلك تعبيراً مبكراً عن إحساس بالخطر، ومحاولة لتحصين الداخل الأميركي عبر الجغرافيا القريبة.
بعد قرنين تقريباً، تعود الفكرة ذاتها بصيغة معاصرة في وثيقة عقيدة ترامب، التي أعادت ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأميركية، واضعة نصف الكرة الغربي في الصدارة، فالأميركيتان، وفق هذا التصور، ليستا مجرد جوار جغرافي، بل خط الدفاع الأول عن الأمن القومي الأميركي، ومن هنا برز التركيز على قضايا الهجرة غير النظامية، والجريمة العابرة للحدود، والحد من النفوذ الصيني المتنامي في أميركا اللاتينية، باعتباره تهديدًا مباشرًا على تخوم الولايات المتحدة.
في المقابل، يلاحظ المتابع بوضوح أن الشرق الأوسط لم يعد يحتل الموقع المركزي ذاته في هذه الرؤية، والسؤال هنا: هل يعني ذلك؟ أهوى تخلياً أميركياً كاملاً عن المنطقة، أم مجرد خفض للاهتمام والتورط المباشر؟ الأرجح أننا أمام خيار ثانٍ، يتمثل في تقليص العمليات العسكرية الكبرى، وتجنب الانغماس طويل الأمد في صراعات مفتوحة، كانت واشنطن طرفاً رئيسياً في نشأتها أو إدارتها.
غير أن هذا الانكفاء النسبي لا يمر من دون كلفة على المنطقة، فالفراغ الاستراتيجي لا يبقى فارغاً، بل سرعان ما تتنافس على ملئه قوى إقليمية ودولية طالما انتظرت هذه اللحظة، والمؤسف أن أياً من هذه القوى ليس عربيًا، فالمشهد مرشح لأن تشغله الصين وروسيا وإيران وتركيا، مع خطر متصاعد يتمثل في الهيمنة الإسرائيلية، في ظل ضمان أميركي مستمر للتفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
أما القضية الفلسطينية، فإن تراجع مركزية الشرق الأوسط في الإستراتيجية الأميركية يفتح الباب على احتمالين متناقضين، الأول، وهو الأسوأ، أن تستمر واشنطن في ضمان تفوق إسرائيل المطلق، بما يجعلها قوة إقليمية مهيمنة بلا قيود، قادرة على فرض وقائع نهائية على الأرض الفلسطينية، أما الاحتمال الثاني، فيتمثل في تآكل نمط الوساطة الأميركية التقليدية، وفتح المجال أمام أطراف دولية أخرى قد تكون أقل انحيازاً لإسرائيل، ما قد يفضي ولو نسبيًا إلى كلفة سياسية أقل على الفلسطينيين.
على الصعيد العسكري، يبدو أن الولايات المتحدة تميل إلى نموذج «الشركاء البدلاء»، أي الاعتماد على قوى إقليمية كبرى للقيام بأدوارها، بدل التورط المباشر، هذه المقاربة ليست جديدة؛ فقد جُرّبت في عهد باراك أوباما، وانتهت إلى نتائج كارثية تمثلت في تمدد النفوذ الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن، واليوم، لا تبدو الأزمات في هذه الساحات، أقرب إلى نهايات واضحة، ما يجعل تكرار السيناريو ذاته أمرًا بالغ الخطورة.
بالنسبة لدول مثل الأردن ومصر، فإن هذا التحول يفرض ضرورة التفكير الجدي في تنويع الشراكات الدولية، وعدم الارتهان الكامل للمظلة الأميركية، عبر بناء علاقات متوازنة مع قوى دولية متعددة، وتعزيز عناصر القوة الذاتية سياسياً واقتصادياً وأمنيًا.
في المحصلة، تمثل عقيدة ترامب تحولاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأميركية، لا يقتصر على تغيير الأولويات، بل يمس أدوات النفوذ والتدخل ذاتها، وهو تحول يحمل في طياته مخاطر وفرصاً معاً، ويجعل مستقبل المنطقة العربية مرهوناً بقدرة دولها على قراءة المتغيرات بدقة، وصياغة استراتيجيات مستقلة تحمي مصالحها في عالم يتجه بثبات نحو تعددية قطبية غير مستقرة، وهو يمر الآن بمرحلة انتقالية هلامية شديدة الخطورة.
الغد