شرق المتوسط الذي يعيد ترتيب نفسه
مالك العثامنة
22-12-2025 12:18 AM
لم تعد اتفاقيات الطاقة في شرق المتوسط مجرد ملفات تقنية أو تفاهمات عابرة بين دول متجاورة، بل تحولت بهدوء إلى أدوات لإعادة هندسة الإقليم سياسيا واقتصاديا، بعيدا عن الضجيج وقريبا من منطق المصالح الصلبة، وما يجري اليوم في شرق المتوسط ليس سباقا على الغاز فقط، بل سباق على تثبيت قواعد لعبة جديدة، تدار فيها الجغرافيا بالقانون، كما تدار السياسة بالعقود طويلة الأمد، وتختبر فيها الدول قدرتها على الانتقال من رد الفعل إلى الفعل الاستراتيجي.
الاتفاق الأخير بين لبنان وقبرص لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة يأتي في هذا السياق بالضبط، وهو اتفاق تأخر أكثر مما يجب لكنه يحمل دلالة تتجاوز الطرفين، فلبنان الغارق في أزماته الداخلية يبحث عن نافذة قانونية تفتح له باب الاستثمار في ثرواته البحرية، وقبرص تعزز موقعها كحلقة وصل بين شرق المتوسط وأوروبا، وكل ذلك يأتي في لحظة تبحث فيها القارة العجوز عن بدائل مستقرة للطاقة بعيدا عن الابتزاز الجيوسياسي وتقلبات السياسة الدولية.
في الوقت نفسه، تمضي مصر وإسرائيل في ترسيخ شراكة غازية عميقة لا تقوم فقط على التصدير والتسييل، بل على بناء شبكة مصالح متداخلة تمتد لسنوات طويلة، وهذه الاتفاقيات لا تقرأ بمعزل عن بعضها بعضا، فهي تشكل معا بنية إقليمية جديدة، تدار بمنطق الاقتصاد السياسي لا بمنطق الشعارات أو الاستقطابات الأيديولوجية، وهي بنية تتقدم خطوة خطوة من دون انتظار تسويات كبرى للصراعات المفتوحة.
ومن اللافت أن هذه الترتيبات يتم بناؤها بعيدا عن الملفات الساخنة التقليدية وبتحاش مقصود للصدامات المباشرة، حتى الخلافات، مثل اعتراضات تركيا أو تعقيدات الساحة اللبنانية الداخلية، يجري احتواؤها عبر أدوات قانونية ودبلوماسية لا عبر التصعيد، شرق المتوسط يتعلم ببطء كيف يحيد السياسة الصاخبة لصالح السياسة النافعة، وكيف يحول الطاقة من عنصر صراع إلى عنصر تنظيم إقليمي.
من زاوية أردنية، لا يمكن النظر إلى هذه التحولات بوصفها مشهدا بعيدا أو منفصلا، الأردن الذي يفتقر إلى الغاز البحري يملك موقعا جيوسياسيا ووظيفيا يجعله جزءا من معادلة الطاقة الإقليمية، سواء عبر الربط الكهربائي أو شبكات النقل أو دوره كمنصة استقرار سياسي في محيط مضطرب، هذه لحظة اختبار حقيقية لقدرة الدولة على تحويل الجغرافيا من عبء إلى قيمة مضافة.
وهنا تبرز فرصة الحكومة الحالية التي تحمل ملف التحديث الاقتصادي بعقل إقليمي لا محلي فقط، حكومة تدرك أن الاقتصاد الأردني لا ينفصل عن محيطه وأن النجاح لا يأتي من الانكفاء بل من الاندماج الذكي في مشاريع الإقليم، إضافة إلى خبرة رئيسها السياسية وقدرته على قراءة التوازنات التي تمنح هذا التوجه فرصة حقيقية للنجاح، خصوصا إذا ما جرى التعامل مع الطاقة والبنية التحتية بوصفهما أداتين للتموضع الاستراتيجي لا مجرد ملفين خدماتيين.
الخلاصة أن شرق المتوسط لا ينتظر حلول الصراعات الكبرى كي يتحرك، فهو يبني واقعه الجديد خطوة خطوة عبر اتفاقيات تبدو تقنية في ظاهرها لكنها في جوهرها سياسية بامتياز، ومن يحسن قراءة هذه اللحظة قد يثبت موقعه في الخريطة المقبلة، ومن يفوته قطار الطاقة اليوم قد يجد نفسه خارج معادلات التأثير غدا مهما علا صوته أو كثرت شعاراته.
"الغد"