2025 في الميزان الاقتصادي
د. رعد محمود التل
24-12-2025 10:29 AM
لم يكن عام 2025 عامًا عاديًا في مسار الاقتصاد العالمي، بل شكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدول على الصمود في وجه صدمات مركبة شملت النزاعات الجيوسياسية، وتباطؤ النمو، وأزمات الديون، والاضطرابات المناخية. ورغم سوداوية المشهد في بدايات العام، أظهرت الاقتصادات – ولا سيما النامية منها – قدرة لافتة على التكيف تجاوزت توقعات معظم المحللين.
شهد الاقتصاد العالمي تقلبات حادة، إذ سرعان ما تحوّل التفاؤل الأولي إلى تشاؤم مع تصاعد التوترات التجارية، واستمرار عدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية، وتفاقم أزمة الديون في الدول النامية. وللعام الثالث على التوالي، تجاوزت مدفوعات خدمة الديون الخارجية ما حصلت عليه هذه الدول من تمويل جديد، في ظاهرة غير مسبوقة منذ نصف قرن. ومع ذلك، لم ينهَر النمو العالمي كما كان متوقعًا.
بل على العكس، سجّل الاقتصاد العالمي أداءً أفضل من التقديرات، مع توقعات بنمو يقارب 2.7% في عام 2025، وهو مستوى يتماشى مع التوقعات الأولية رغم الضغوط القائمة. وأسهم في ذلك تراجع أسعار الفائدة نسبيًا، وإعادة فتح أسواق السندات، واستقرار أسواق الطاقة، إضافة إلى قدرة الاقتصادات على إعادة تشكيل سلاسل الإمداد والاستفادة السريعة من التحول الرقمي، خصوصًا تطبيقات الذكاء الاصطناعي. لكن الدرس الأهم الذي حمله عام 2025 لم يكن في أرقام النمو وحدها، بل في إدراك متزايد بأن خلق الوظائف هو حجر الزاوية لأي مسار تنموي مستدام. ففي هذا السياق، برز توجه عالمي واضح لجعل الوظائف محورًا رئيسيًا لكل تدخل إنمائي، بحيث أصبح عام 2025 فعليًا “عام الوظائف”.
فالوظائف لا تقتصر على كونها مصدر دخل، بل تمثل طريقًا للخروج من الفقر، وأداة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي، ومحركًا للاكتفاء الذاتي وتقليص الاعتماد على المساعدات. ويكتسب هذا التوجه أهمية خاصة في ظل التحول الديموغرافي الأكبر في تاريخ البشرية، حيث من المتوقع أن يدخل نحو 1.2 مليار شاب في البلدان النامية إلى سوق العمل خلال العقد المقبل. ويعني الفشل في استيعاب هذه الطاقات خطرًا حقيقيًا يتمثل في اتساع رقعة الاضطرابات والهجرة وعدم الاستقرار. وانطلاقًا من ذلك، ركّزت الجهود التنموية على خمسة قطاعات رئيسية ذات قدرة عالية على خلق الوظائف وتحفيز النمو المحلي: الطاقة والبنية التحتية، والصناعات الزراعية، والرعاية الصحية، والسياحة، والتصنيع.
في قطاع الطاقة، لا تزال فجوة الكهرباء في أفريقيا جنوب الصحراء من أبرز معوقات التنمية، حيث يعاني مئات الملايين من غياب الإمدادات الموثوقة. وقد جاءت مبادرة “المهمة 300” كاستجابة طموحة تهدف إلى إيصال الكهرباء إلى 300 مليون شخص بحلول عام 2030، بما ينعكس مباشرة على الإنتاجية وخلق فرص العمل.
أما الزراعة، التي توفّر نحو 40% من الوظائف في البلدان النامية، فلا تزال تعاني من ضعف التمويل والتكنولوجيا، لا سيما لدى صغار المزارعين. ومن هنا، برزت مبادرة تحويل القطاع الزراعي التي تستهدف نقل هؤلاء المزارعين من زراعة الكفاف إلى الإنتاج التجاري، عبر توسيع التمويل، وربطهم بالأسواق، واستخدام أدوات رقمية حديثة، بما يعزز الأمن الغذائي العالمي ويخلق ملايين الوظائف.
وفي قطاع الرعاية الصحية، يتجاوز الأثر الاقتصادي حدود تحسين الصحة العامة، إذ يساهم الاستثمار في الرعاية الأولية في رفع الإنتاجية وخلق فرص عمل عبر سلاسل قيمة تمتد من الخدمات الطبية إلى الصناعات الدوائية والتكنولوجيا. ويعكس الهدف الطموح بتوفير رعاية صحية ميسورة لنحو 1.5 مليار شخص بحلول 2030 هذا الفهم الشامل لدور الصحة في التنمية.
كما يبرز قطاع السياحة كأحد أكثر القطاعات كثافة في خلق الوظائف، لا سيما للنساء والشباب، مع مساهمته الكبيرة في الناتج المحلي العالمي. وتؤكد التجارب أن الاستثمار في السياحة المستدامة يمكن أن يدعم النمو المحلي ويحافظ في الوقت نفسه على الأصول الثقافية والطبيعية.
أما التصنيع، فيبقى محركًا أساسيًا للتحديث الاقتصادي، إذ يخلق وظائف رسمية، ويعزز الصادرات، ويقلل الاعتماد على الواردات، ويدعم سلاسل الإمداد المحلية، خاصة في الاقتصادات الصاعدة. وفي السنوات الست الماضية، ضاعفت مؤسسة التمويل الدولية تمويلها طويل الأجل لقطاع التصنيع والصناعات التحويلية، ليصل إلى 4.1 مليارات دولار أمريكي في السنة المالية الأخيرة. وتركز مشاريعنا على قطاعات رئيسية تشمل الكيماويات والأسمدة ومواد البناء والإلكترونيات والآلات. وحتى يونيو/حزيران 2025، دعمت مشاريعنا الصناعية نحو 520 ألف وظيفة، منها 180 ألف وظيفة للنساء. وأسهمت هذه المشاريع في تحقيق مشتريات محلية بلغت قيمتها 18.3 مليار دولار أمريكي، وإجراء مدفوعات للحكومات بقيمة 3.3 مليارات دولار.
أظهر عام 2025 أن الصمود الاقتصادي ليس صدفة، بل يجب أن يكون نتاج إصلاحات واستثمارات وشراكات طويلة الأمد. ومع التطلع إلى عام 2026، يتزايد الرهان على “التنمية الذكية” التي تضع الوظائف في قلب السياسات الاقتصادية، باعتبارها الضامن الحقيقي لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا. فالاستثمار في الإنسان والعمل اليوم هو الاستثمار الأجدى في أمن العالم ونموه غدًا.
الراي