جامعة الزيتونة… حين يُربَّى العقل قبل أن تُمنَح العلامة
د.جلال الشورة
29-12-2025 01:10 PM
ليست الجامعة مبنى، ولا لائحة علامات، ولا شهادة تُعلَّق على جدار. الجامعة فكرة. والفكرة إمّا أن تُنبت عقلًا قادرًا على المواجهة، أو تُنتج وهمًا أنيقًا سرعان ما ينهار خارج القاعة. من هنا تُفهم جامعة الزيتونة الأردنية؛ لا بوصفها محطة سهلة، بل مدرسة اختارت منذ بدايتها أن تراهن على الإنسان لا على الرقم.
الزيتونة لم تُدلِّل طلابها، ولم تُساوم على المعايير، ولم تُغْرِهم بأنصاف النجاح. كانت واضحة منذ اليوم الأول: من أراد الطريق المختصر فليبحث عنه في مكان آخر، ومن أراد أن يُبنى عقله حجرًا فوق حجر، فهنا مكانه. لذلك بدت للبعض قاسية، لكنها في الحقيقة كانت عادلة؛ والعدل في التعليم هو أن تُعطي كل ذي جهدٍ حقه، لا أن تُساوي بين المختلفين إرضاءً للهدوء.
في كلية الحقوق تحديدًا، لم تُصنع المكانة بالخطابات ولا بالإعلانات، بل بتراكم المدارس العلمية. أساتذة لم يكونوا ''مقرِّري مواد''، بل صانعي وعي قانوني:
* كامل السعيد، حيث القانون الجزائي ليس حفظ نصوص، بل فهم فلسفة العقاب وحدود السلطة.
* محمد الزعبي، حيث المدني يُدرَّس كمنظومة حياة: التزام، عقد، ومسؤولية، لا كتمارين شكلية.
* عادل الطائي، حيث القانون الدولي ميزان مصالح ونظام قواعد، لا شعارات عابرة.
هؤلاء لم يمنحوا ثقة زائفة، بل زرعوا شكًّا صحيًا: شكًّا يدفعك للتفكير، للمراجعة، وللدفاع عن رأيك بالحجة لا بالصوت. ومن هذا الشك خرج خريجون يعرفون متى يتكلمون، ومتى يسكتون، ومتى تكون الكلمة واجبًا لا خيارًا.
ولم تكن الزيتونة مشروع لحظة. كانت منذ تأسيسها مشروع زمن. صدقة جارية في معناها العميق، لا الخيري فقط، أسسها رجال رأوا في التعليم مسؤولية وطنية لا صفقة تجارية: علي القرم وعبدالكريم مرعي، رحمهما الله. أرادا جامعة لا تُجمِّل الأرقام، بل تُحصِّن العقول.
اليوم، لا يُكتب هذا الكلام من باب الحنين، ولا من باب الطلب، ولا من موقع انتظار. يُكتب من موقع الواجب. واجب من تخرّجوا على معيار صعب أن يُثبتوا أن الصعوبة لم تكن عبثًا، وأن الصرامة لم تكن قسوة، وأن ́’ قلة العلامات" كانت في حقيقتها وفرة قيمة.
الزيتونة ليست جامعة لكل أحد، وهذا ليس عيبًا. العيب أن تدّعي الجامعة ما لا تفعل، أو أن تمنح ما لا يستحق. أمّا الزيتونة، فقد قالت منذ البداية: أنا أُربي، لا أُجامل. ومن تربّى هنا يعرف أن الموقع لا يُستجدى، وأن القيمة لا تُمنَح، وأن الأثر هو الامتحان الحقيقي.
هذه جامعة ربّت بالعِلم.
ومن تربّى بالعِلم… لا يطلب مكانًا في الصف؛ يصنع الصفّ نفسه.