كلمة للتاريخ عن مملكة باشان الأردنية
د. أحمد عويدي العبادي
28-06-2025 11:59 AM
لقد شكّلت مملكة باشان، بما تملكه من خصائص جغرافية استراتيجية وموارد طبيعية غنية، محورًا أساسيًا في بناء الهوية الأردنية القديمة، وهوية المشرق العربي برمّته. ولم تكن باشان كيانًا معزولًا، بل كانت جزءًا من منظومة الممالك الأردنية العريقة التي ازدهرت في هذه الأرض، ومنها مملكة مؤاب، ومملكة عمون، ومملكة أدوم، ومملكة بيريا المنسية، وممالك قوم لوط. وقد نشأت بين هذه الممالك تفاعلات متشابكة تنوعت بين التحالف والصراع، وفقًا لمعطيات السياسة والاقتصاد في كل فترة.
فعلى سبيل المثال، أسهمت باشان ومؤاب ومملكة بيريا في تأمين الطرق التجارية الكبرى، وخاصة طريق الملوك، الذي ربط الجزيرة العربية ببلاد الشام. كما دارت بينها صراعات حدودية، تشهد عليها النقوش مثل مسلة ميشع، التي أشارت إلى النزاع مع «الأراضي العليا» بما يشمل تخوم باشان وبيريا. أما مملكة عمون، فقد جمعتها بباشان وممالك قوم لوط صلات تجارية وثقافية متينة، تدل عليها المكتشفات الأثرية في جرش، وعمّان، ومواقع الأغوار الجنوبية. وفي المقابل، كانت العلاقة مع أدوم أكثر توترًا بسبب التنافس على الممرات الجنوبية والثروات المعدنية.
وعلى الرغم من هذا التفاعل، بقيت كل هذه الممالك مستقلة بهوياتها المتميزة، كما تؤكد ذلك النقوش واللقى الأثرية في أم قيس وبيلا وإربد والرمثا وعجلون والمواقع المحيطة ببحر لوط (الميت). وتُظهر هذه الشواهد بجلاء أن هذه الكيانات لم تكن امتدادًا لأي قوة أجنبية، بل نمت من صلب الأرض الأردنية، وعبرت عن خصوصية جغرافية وثقافية وسياسية عريقة.
وهنا يتبدى زيف الروايات التوراتية التي زعمت سيطرة قوى إسرائيلية قديمة على باشان أو بيريا أو ممالك قوم لوط أو سواها من الممالك الأردنية. فلا وجود لأي دليل أثري أو نقش يدعم هذه المزاعم، بينما نجد وفرة في النقوش والوثائق الآشورية، مثل سجلات تغلث فلاسر الثالث وسرجون الثاني، التي تثبت أن الروايات التوراتية لم تكن سوى إعادة صياغة مشوهة ومغرضة لتاريخ الغزوات الآشورية، أعدها أحبار بني إسرائيل خلال السبي البابلي، في محاولة لإضفاء شرعية زائفة على سرديتهم.
وعليه، فإن مسؤوليتنا العلمية، كمؤرخين وباحثين، تحتم علينا إعادة الاعتبار لهذه الممالك الأردنية الأصيلة: باشان، ومؤاب، وعمون، وأدوم، وبيريا، وممالك قوم لوط، باعتبارها أركانًا للهوية الأردنية المتجذرة، وشواهد على إسهام الأردنيين القدماء في صناعة تاريخ المشرق بعيدًا عن أساطير التوراة التي لا تستند إلى أي أساس علمي.