الاردن وقبائله صُنَّاع حضارة وسياسة منذ آلاف السنين
د. أحمد عويدي العبادي
07-07-2025 01:11 PM
* هذا المقال مأخوذ من كتابي الجديد / ممالك قوم لوط الأردنية
منذ فجر التاريخ، لم يكن الموقع الجغرافي للأردن مجرد خلفية صامتة لحركة البشر، بل كان لاعبًا محوريًا في تشكيل مسارات التجارة والتحالفات السياسية، بل وفي بناء الحضارات ذاتها. لقد منحت الطبيعة الجغرافية المتنوعة، الممتدة بين سهول غور الأردن ومرتفعات الجبال وبوادي الصحراء الشرقية، للأردن القديم موقعًا استراتيجيًا لم يكن بإمكان القوى الإقليمية الكبرى تجاوزه. لقد صاغ هذا الموقع دينامية خاصة سمحت بتعايش البداوة والحضر في نسيج واحد، وأتاحت ولادة مراكز تجارية مزدهرة عرفت كيف تستثمر تنوعها الجغرافي لخدمة اقتصادها وسياستها.
وتأتي الاكتشافات الأثرية الحديثة، لا سيما في خربة الغسول، وتل كفر عين، وغور نميرة، وسلسلة المواقع الممتدة على طول وادي الأردن والبحر الميت، لتعيد كتابة تاريخ الأردن القديم بعيدًا عن الصور النمطية. لقد كشفت هذه المواقع عن مجتمعات ذات بنية إدارية متقدمة، ومهارات حرفية وتجارية رفيعة، وقدرة على الدخول في تحالفات استراتيجية مع دول المدن الكبرى كمدينة ماري، وأوغاريت، وبلاد الرافدين.
لم تكن هذه القبائل الأردنية مجرد كيانات رعوية تسكن الهوامش، بل كانت مجتمعات واعية بدورها الاقتصادي والسياسي، قادرة على المفاوضة، وإبرام الاتفاقات، وممارسة السيادة في مجالها الحيوي.
وتدلل الأبعاد الاجتماعية والثقافية المستخلصة من هذا البحث على أن هذه المجتمعات امتلكت منظومة قيمية وأخلاقية متماسكة، كان في مقدمتها ثقافة الضيافة والحماية، وهي ثقافة لم تكن مجرد عادة اجتماعية بل إطار قانوني يحكم العلاقات بين القبائل والممالك.
إلى جانب ذلك، تميزت هذه المجتمعات بنظم عرفية دقيقة، أدارت بها علاقاتها الداخلية والخارجية، وبشرعية دينية كانت تبرر للزعامات سلطتها السياسية عبر الرموز والطقوس. ولا شك أن هذا التداخل بين الجانب الديني والسياسي أرسى أسس الشرعية التي مهدت لاحقًا لنشوء نمط المدينة-القبيلة، وهو النمط الذي حمل ملامح البداوة في قلب حضارة آخذة في التشكل.
وما يجعل الأردن القديم حالة فريدة في تاريخ المشرق هو النجاح الذي تحقق في الانتقال من فضاء التحالفات القبلية المرنة إلى بناء كيانات سياسية مستقرة وفاعلة مثل ممالك مؤاب، وعمون، وأدوم وبيريا وباشان . لم يكن هذا التحول نتيجة فعل عفوي بل كان حصيلة تفاعل طويل بين قوى متقابلة ومتكاملة: قوى البداوة الديناميكية وقوى الحضر الاستقراري.
لقد أدركت كل قوة حاجتها للأخرى: فالبداوة وفرت الحماية والسيطرة على الممرات التجارية، فيما وفّر الحضر مراكز إنتاج واستقرار سياسي. وفي هذا السياق، تحولت طرق التجارة إلى شرايين حضارية، ولعبت القوافل دورًا لا يقتصر على نقل السلع بل تعداه إلى نقل الأفكار، والقيم، وأساليب التنظيم، وهو ما مهّد الأرضية لنشوء الدولة في الأردن القديم .
ومن خلال هذا التفاعل، أصبح الأردن ليس فقط ممرًا للسلع التجارية، بل مركز إشعاع حضاري انتقلت عبره اللغة والكتابة، كما انتقلت تقنيات الزراعة والصناعات الحرفية، وصولًا إلى النظم السياسية والعسكرية التي أثرت في محيطه الشامي والجزيري تعدته الى بلاد الرافدين ووادي النيل . لقد عبرت هذه الثقافة الأردنية القديمة حدودها، ولم تبقَ أسيرة للجغرافيا، بل صنعت لنفسها موقعًا مؤثرًا في محيطها الحضاري.
وعلى الرغم من التقدم الكبير في الكشف عن هذه الحقائق، إلا أن آفاق البحث لا تزال رحبة. فما زالت مناطق البوادي الأردنية الشرقية في حاجة إلى مزيد من التنقيبات الدقيقة، وما زال الربط العلمي بين الأردن القديم والحضارات الثمودية أو الممالك الحجازية القديمة مجالًا خصبًا يستحق استكشافه. وهناك حاجة أيضًا لتحليل اقتصادي عميق يُعيد بناء خارطة التجارة البحرية المرتبطة بالبحر الأحمر وأدوم، وهو ما من شأنه أن يوسّع رؤيتنا لفهم ديناميات القوة في المشرق القديم.
لقد أثبت هذا البحث أن الأردن القديم لم يكن كيانًا سلبيًا في حركة التاريخ، بل كان صانعًا فاعلًا لأحداثه، خالقًا لمساراته، واضعًا للبنات الأولى لممالك ستصبح لاحقًا جزءًا من تاريخ العرب والمشرق بأسره. لقد أزاحت الاكتشافات الأثرية الحديثة الغبار عن هذه الحقيقة، وأعادت للأردن دوره المستحق في قصة الإنسانية وحضاراتها. فالقبائل الأردنية القديمة لم تكن قبائل عابرة، بل كانت النواة الحية لحضارة تدين لها المنطقة بالكثير من أصولها السياسية والثقافية والاقتصادية.
وهكذا، يتأكد لنا أن الأردن لم يكن مجرد جغرافيا، بل كان دومًا جغرافيا سياسية بامتياز، حيث التقت عنده القوافل، وتعانقت فيه التحالفات، وانطلقت منه الشرارات الأولى لبناء الدول.
لقد أصبح من الضروري في ضوء الاكتشافات الأثرية الحديثة، أن يُعاد النظر في موقع الأردن القديم ضمن خارطة التفاعل الحضاري والاقتصادي والسياسي في المشرق. إن ما أفرزته الحفريات في خربة الغسول، تل كفر عين، غور نميرة، وغيرها، يُعيد رسم صورة أكثر تعقيدًا وثراءً لدور القبائل الأردنية القديمة في تاريخ المنطقة، ويؤكد أن الأردن لم يكن مجرد هامشٍ أو ممرٍ عابر، بل كان قلبًا نابضًا لحركة حضارية واسعة امتدت من ضفاف الفرات إلى تخوم النقب وسيناء، والى وادي النيل وشواطئه البحر المتوسط , ومن السهول الأردنية إلى السواحل الفينيقية وتخوم الربع الخالي والحجاز والخليج العربي في الجزيرة العربية.
إن أهمية الجغرافيا الأردنية لا تكمن في موقعها الوسيط فحسب، بل في طابعها التضاريسي المتنوع الذي أسهم في نشوء نمطٍ اجتماعي مرن قادر على التكيف مع التحولات الكبرى. فقد خلقت السهول المنبسطة في غور الأردن والبحر الميت بيئة مناسبة للزراعة والاستقرار، فيما وفرت المرتفعات الجبلية والبوادي الشرقية ملاذات للقبائل الرحل، وهذا ما أسس لاحقًا لثقافة التعايش بين الحضر والبدو، والتي تشكّل العمود الفقري لفهم البنية الاجتماعية والسياسية للأردن القديم.
لقد أظهرت الحفريات الأثرية أن هذه المجتمعات لم تكن تعيش بمعزل عن التفاعلات الإقليمية، بل كانت جزءًا حيًا من شبكات التجارة والسياسة. وتدل الأدلة الأثرية على وجود تنظيمات اقتصادية اردنية معقدة شملت مستودعات تخزين ضخمة، وشبكات توزيع متقنة، إضافة إلى أدوات قياس وأختام تشير إلى معرفة واسعة بإدارة الموارد. ولعل الأهم من ذلك هو الاكتشافات التي توثق صلات دبلوماسية بين هذه القبائل والدول المدن الكبرى، وهو ما يعكس وجود خبرات تفاوضية ودبلوماسية مكنت القبائل الأردنية من أن تكون شريكًا لا تابعًا.
ويتضح من تحليل النقوش الصخرية والرموز الدينية أن القيم الاجتماعية لدى القبائل الأردنية القديمة كانت تستند إلى منظومة أخلاقية راسخة تنبع من ثقافة البداوة العميقة. فمفاهيم الجوار، الحماية، والضيافة لم تكن مجرد عادات اجتماعية، بل كانت في جوهرها عقودًا اجتماعية تحكم العلاقات بين الأفراد والمجموعات، وتحفظ النظام والاستقرار في غياب الدولة المركزية. هذه القيم تطورت لاحقًا لتصبح جزءًا من نظم الحكم في الممالك الأردنية، وهو ما يفسر بقاء الطابع القبلي حتى داخل الأنظمة السياسية الأكثر استقرارًا.
إن الثقافة الدينية التي وُجدت في هذه المجتمعات، كما تدل عليها المعابد والمقامات والنقوش، تُظهر أن الدين لم يكن شأناً شخصيًا أو طقوسيًا فحسب، بل كان إطارًا تبريريًا للسلطة السياسية. فقد استُخدمت الرموز الدينية لمنح الزعماء شرعية لا تقتصر على القوة بل تمتد إلى القداسة. ويلاحظ أن بعض المعتقدات الدينية التي ظهرت في تل نميرة ومواقع أخرى حملت رموزًا مرتبطة بالخصب والحماية، وهي رموز تعكس الانشغال العميق بحماية الأرض والنسل والمجتمع.