facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




صفحة من كتابي (ممالك قوم لوط الأردنية)


د. أحمد عويدي العبادي
23-08-2025 09:33 AM

تحليل مصطلح "قوم" في القرآن الكريم من منظور علم الاجتماع القرآني//

تحليلًا دقيقًا لمصطلح «قوم» في القرآن الكريم يكشف أن الكلمة ليست اسمَ جمعٍ محايدًا فحسب، بل «وحدةٌ اجتماعيةٌ ذاتُ إرادةٍ جمعيةٍ ومعيارٍ قيميّ» تُخاطَب على أنها كيان قادر على القبول والرفض، فتستحق الثواب والعقاب بوصفها جسدًا اجتماعيًا متماسكًا.

جذر الكلمة (ق-و-م) يدور على معنى القيام والنهضة والثبات، وكأن «القوم» هم الجماعة التي «تقوم بأمر نفسها» سياسةً واقتصادًا وأخلاقًا. ومن هنا يختلف «القوم» عن «الأهل» الذين يدلّون على البيت والقرابة الضيقة، وعن «الإخوان» الذين يشيعون بالأُلفة والقيم المشتركة، وعن «النّاس» بوصفها عموم البشر، وعن «الأمة» التي تتشكل على عهدٍ ووِجهةٍ ورسالةٍ جامعة.

في قصة لوط عليه السلام تتجلّى عبقريةُ البيان القرآني في الانتقال المقصود بين ألفاظ القرابة والهوية. فالقرآن الكريم يقدّم لوطًا من داخل النسيج الاجتماعي لأهل بلده في سياق الدعوة والإنذار، فيسمّيه «أخوهم» إظهارًا لشراكة الانتماء وصدق النصح: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ (الشعراء: 161).

لكن حين ينقلب المجتمع إلى عدوان منظّم، يسحب القرآن الكريم لقب «الأخ» ليدلّ بلفظٍ حادّ على «الجسم الاجتماعي» وقد انخلع عن الفطرة؛ فيقول: ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ (هود: 78).

«يُهْرَعون» تصويرٌ للحركة الجماعية المندفعة التي جمعت بين سرعةٍ وفوضى؛ ليست نزوةَ أفرادٍ متناثرين، بل «استنفار قوم»؛ أي آليةُ تعبئةٍ اجتماعيةٍ تحمي الفاحشة وتجعلها «نظامًا عامًا». ولهذا جاء وسمهم في موضع آخر بصفةٍ تمدحُ الجريمة وتُقنّنها: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾ (العنكبوت: 29).

فهو توصيف «للقوم» كمنظومة قيمٍ فاسدة تملك مؤسساتها (النادي/المنتدى) وتفرض معاييرها. ثم بلغ الانهيار الاجتماعي مبلغًا جعل «الطُّهرَ» تهمةً تُنفى لأجلها الأقليةُ المصلحة: ﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: 56).

من منظور علم الاجتماع القرآني، «القوم» إذن هو مستوى «المسؤولية الجمعية»: الكيانُ الذي تُخاطَبه الرسالات بـ«يا قومِ»؛ فإن قبل نهضَ، وإن رفض سقطَ. هذا الخطاب حاضرٌ بقوة في قصص الأنبياء كافة: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ (البقرة: 54)، و﴿ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ (الأعراف: 150). وعلى الضفة المقابلة، يتضح البعد السياسي للمصطلح في قول الطاغية: ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ…﴾ (الزخرف: 51)،

وفي تشخيص ظرف الدعوة: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ…﴾ (يونس: 83). هاهنا «القوم» محكومٌ بمنظومة سلطةٍ و«ملأٍ» يصنعان مزاج الجماعة واتجاهها. ومن لوازم هذا التحليل قراءةُ المصطلحين معًا: «القوم» جسدٌ اجتماعيّ، و«الملأ» نخبتُه المتضخّمة التي تكيّفُ قراراته وقيمه: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ﴾ (الأعراف: 60).

وعلى مستوى الحقل الدلالي، تتمايز «قوم» عن مفرداتٍ أخرى تنظّم خرائط الاجتماع في القرآن الكريم: «الأهل» دائرةُ الحماية القُربى، و«العشيرة» بنيةُ النَّسب والتناصر، و«الشعوب والقبائل» خرائطُ التنوّع التاريخي والهُوية في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…﴾ (الحجرات: 13).

أمّا «الأمّة» فهي الصيغة العليا للوحدة المقصودة بالرسالة والعهد، التي تتجاوز أواصر الدم إلى أواصر الميثاق: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92). بهذا الميزان، يمكن القول إن «القوم» هو «مادة الأمة الخام»: فإذا استوت على عهدٍ ووِجهةٍ صارت «أمّة»، وإن انفرط عقدها الأخلاقي ارتكست إلى «عصبيةٍ بلا قيم».

وتبرز دقّة الاصطلاح القرآني أيضًا في أن «قوم» كلمةٌ حاملة للحياد الأصلي؛ تُلحَقُ بها الأوصاف التي تمنحها التقييم: «قومٌ مؤمنون»، «قومٌ كافرون»، «قومٌ يجهلون»، «قومٌ يعقلون»، «قومٌ يتفكّرون».

فالقيمةُ ليست في اللّفظ نفسه بل في الصفة الملازمة. ولذلك يكثر في القرآن الكريم ختمُ الآيات بتمييزٍ معرفيٍّ قِيَمي: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل: 12). فالآيات مبسوطةٌ للجميع، لكن «القوم» الذين تحوّلت فيهم المعرفة إلى «عقلٍ» هم وحدَهم الذين ينتفعون بها.

على هذا الأساس، يصبح مشهدُ لوط عليه السلام مثالًا مكثّفًا لتحوّل «القوم» إلى أداة عدوانٍ جمعيّ حين تشِلّ القيمُ الجهازَ المناعي للمجتمع. واللافت أن القرآن الكريم يحافظ – مع هذا الانهيار – على خطاب الدعوة بالنداء المفعم بالشفقة: «يا قومِ»، في الوقت الذي يصف فيه الجسمَ الاجتماعي وصفًا باردًا موضوعيًا: «قومه».

إنها مسافةٌ بيانيةٌ بين «نبرة الداعية» و« حُكم السنّة» على حركة الاجتماع. ومن هنا جاء ختامُ المشهد بسنّة الجزاء: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ (هود: 82)، بعد أن عُمِّم الفساد وتحول من شذوذ أفراد إلى شعيرةِ قومٍ وقانونِ مدينة.
وإذا نقلنا هذا الفهم إلى خبرة المجتمع العشائري الأردني العريق – وهو سياقنا التحليلي – وجدنا أن «القوم» ليسوا دائمًا «نُصرة». فالعشيرة تتفاضل داخليًا بين «حَمولات / حمائل / مفردها حمولة » تُقيم على النصرة، و«أنصار» تنتصر للقيمة ولو خالفت روابط الدم، و« مترهّلين» يبيعون عهد العشيرة تحت ضغط السلطان أو طمع الدنيا.

ولئن صاغت الأعرافُ الأردنيةُ أدوات صيانةٍ للجماعة مثل «الجوار» و« الدَّخالة» و«العطوة» و«الفزعة» والجلوة والطيبة / الصلح وحُرمة الضيافة، فإنها حين تذوب وتتسيّس، يتحوّل «القوم» إلى غطاءٍ لمصالح قلّةٍ تتحكم بمفاصل القرار وتُعيد تعريف الشرف. هذا بعينه ما تُحذّر منه السنن القرآنية في قصة لوط عليه السلام: سقوطُ منظومة «حماية القيم» لصالح «حماية الشهوة»، وانقلابُ «القوم» من مظلّة نجدةٍ إلى أداة طردٍ للمصلحين.

ويتّسق مع ذلك أن القرآن الكريم يربط نهضة «القوم» أو سقوطهم بمدى رسوخ «الضمير الجمعي». فحين يثبت الضمير، تتكوّن قابليةُ التوبة والإصلاح كما في خطاب موسى عليه السلام لقومه بعد الفتنة. وحين يتهدّم الضمير، يبرز «الملأ» بوصفه محركَ القوم نحو التبرير والتسويغ، لتتحول الرذيلة إلى «سِمَة قوم»، كما في توصيف قوم لوط: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ (الأعراف: 81). الإسراف هنا ليس كثرةَ معصيةٍ فقط، بل هو «فيضانٌ قيميّ» يكتسح الحدود ويجاهر بالمنكر ويُقنّن له في النادي والسوق والقضاء.

ومن زاويةٍ بنيوية، يكشف تركيب «القوم/الملأ» أن القرآن الكريم يعلّمنا رصدَ مفاصل التغيير: فليس كلُّ فسادٍ جمعيٍّ يُعالَج بتجريم الأفراد فحسب، بل بتفكيك علاقات القوة التي تُطبع الفساد وتحوّله إلى عرفٍ وذوق عام مقبول رغم خطيئته . لذلك نجد الرسالات تشتبك مع «القوم» خطابًا وتشتبك مع «الملأ» تفكيكًا، فيتوجه الإنذارُ إلى الجماعة («يا قوم»)، بينما تُعرّي النصوصُ خطابَ النخبة وتُبطل شرعيتَها.

وعند نجاح هذا التفكيك ينقلب «القوم» من كتلةٍ خاملةٍ إلى «أمّةٍ» ذات عهدٍ وشهادة: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (الأنبياء: 92).

بهذه القراءة، لا تعود كلمة «قوم» في قصة لوط عليه السلام وصفًا جغرافيًا أو عِرْقيا فحسب، بل تشخيصًا لمستوى «الأهلية الأخلاقية» و«الفاعلية السياسية» في الوقت نفسه. إنهم «قومه» لأنهم إطاره الاجتماعي، ولكنهم ليسوا «إخوانه» ساعة العدوان لأن الأخوّة رابطةُ قيمةٍ قبل أن تكون رابطةَ نسب. ومن هنا نفهم دلالةً دقيقةً في ترتيب الألفاظ: قد يجتمع الناسُ قومًا على الأرض والمصلحة، ولكن لا يتحقق لهم وصفُ «الأخوة» حتى تُجمعهم مرجعيةُ الرحمة والعدل؛ وقد يصيرون «أمّة» إذا انعقدت لهم وِجهةٌ وميثاقٌ ورسالة.

وتبقى الخلاصة السُّننِيّة: حين يشرعن «القوم» الفساد ويجعلونه هويةً عامةً، يبدأ العدّ التنازلي لسقوطهم؛ وحين يكون فيهم «ذريةٌ» تخالف المزاج العامّ، تبقى لهم فرصةُ إنقاذٍ تاريخية (انظر: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾، يونس: 83). لذلك فحُرّاس الفطرة والمصلحون ليسوا زوائدَ اجتماعية، بل صماماتُ أمانٍ تحفظ معنى «القوم» من الانحدار إلى «القطيع».

إن مصطلح «قوم» في القرآن الكريم، بما يحمل من طاقةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وقِيَمية، ليس تفصيلًا لغويًا؛ إنه أداةُ تشخيصٍ حضاري. به نقرأ التاريخ: متى يكون القومُ أهلَ نهضة، ومتى يصيرون أداةَ عدوان؟ وبه نفهم الواقع: أن ترميم «الأخوّة القيمية» مقدِّمةٌ لازمة لتحويل الكتلة الساكنة إلى «أمّةٍ» شاهدة. ومن لم يفطن لهذا الميزان، ضلّ في التسمية فسمّى العصبيةَ «قومًا»، وأضاع جوهر المصطلح القرآني الذي لا يهب صفة «القوم» إلا لمن «قام» بالحق، ولا يحفظها إلا لمن أقام موازين العدل والرحمة.

يمكن دفع الدلالة أبعد اجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا وعسكريًّا عبر تفكيك «القوم» في القرآن الكريم (الكريم) بوصفه «وعاء الفاعلية الجمعية» الذي يُسجَّل له وعليه: تُوجَّه إليه الدعوة، ويصنعه «الملأ»، وتُقاس به المناعة الأخلاقية، وتُختبر عبره قابليات السلم والحرب.

فالدقة البيانية لا تستخدم «قوم» لمجرّد الإشارة إلى كتلة سكانية، بل إلى جسم اجتماعي يمتلك آليات تنسيق داخلي تُحوِّل الرغبة الفردية إلى سلوك عامّ؛ فإن استقامت مرجعياته كان «قومًا يعقلون»، وإن فسدت صار «قومًا مسرفين».

ولهذا تجد القرآن الكريم (الكريم) يأطر السلوك داخل الجماعة بقاعدة مانعة للانقسام والمهانة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).

فالمخاطَب هنا ليس الفرد بل «قوم» يتشكّل ذوقه العام وحدوده الأخلاقية وكيفية تعاطيه مع الضعفاء والنساء والخصوم؛ أي إن الآية تضبط «ثقافة القوم» قبل أن تضبط تصرّف الأشخاص.

سياسيًّا، يَظهر «القوم» بصفته «الكتلة الانتخابية» التي يُعيد تشكيلها الخطاب السلطوي، كما في مشهد فرعون حين حشد الرأي العام واستدعى رموز الهيمنة: ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ…﴾ (الزخرف: 51).

هذا النداء ليس مجرّد خطاب؛ إنّه آلية تعبئة تسندها شبكة «الملأ» الذين يصنعون الذوق السياسي ويموضعون المصلحين خارج الإجماع المصطنع: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ…﴾ (الأعراف: 60، 75). وفي المقابل، تُسجّل سورة الفرقان شكوى رسالية عن فشل قطاعٍ واسع من «القوم» في الالتحام برسالتهم القيمية: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان: 30). إنّها صياغة سياسية بامتياز: «قومي» هنا ليست رابطة دم، بل «هيئة ناخبين» هجرت مرجعيتها التأسيسية، بما ينقل الخلاف من هامش الفرد إلى قلب «المشروعية العامة».

دينيًّا، يُقرأ «القوم» بوصفه مستوى «الأهلية الأخلاقية» للجماعة: تُخاطَب به الرسالات بـ«يا قومِ» فتتأسس مسؤوليةٌ جمعية على الاستجابة أو الإعراض. حين يستفحل الفساد ويتحوّل إلى قانون اجتماعي، تتبدّل التسمية لتكشف القطيعة القيمية كما في قصة لوط عليه السلام: ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ… قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ… أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ (هود: 78)، ثم يبلغ الانقلاب أن يُدان الطُّهر ويُطرد أهله: ﴿قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: 56).

وعلى الضدّ يقدم القرآن الكريم (الكريم) مثال «قوم يونس» ليُثبت أن للجسد الاجتماعي قابليةَ توبةٍ جمعية تُعطِّل مسار الهلاك: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ﴾ (يونس: 98). وتأتي الخواتيم المعرفية لتبيّن أن القيمة ليست في «الاسم» بل في «الوصف»: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل: 12)، أي قوم تحوّل فيهم الإدراك إلى «عقلٍ» يضبط الميول ويُنتج السلوك العام.

عسكريًّا، يَرد «القوم» معيارًا للقابلية القتالية والصلابة الجماعية، سلبًا وإيجابًا. فبنو إسرائيل تشخّصوا واقعًا عسكريًّا معقّدًا بقولهم: ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ (المائدة: 22)، وهو تشخيص لموازين القوة والنفسية القتالية داخل «القوم».

وعلى الجهة المعيارية يُرسم نموذجٌ مضادّ لقومٍ يصنعهم الحبّ الإلهي والصلابة الأخلاقية، فتنبني فاعليتهم القتالية على الانضباط القيمي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ…﴾ (المائدة: 54).

هنا «القوم» ليسوا حملة سلاح فحسب؛ إنما جماعةٌ مُهيكلة على ولاءٍ قيمي يضمن انضباط القوة بعدالتها. ومن جهة مضادة، يقدّم القرآن الكريم (الكريم) «قوم فرعون» شاهدًا على انهيار المهنية القتالية إلى «غطرسة جماعية» تُضلّها الدعاية: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ﴾ (طه: 79).

وتتّضح جدوى هذا التفكيك حين نربطه بخبرة الاجتماع العشائري الأردني: فـ«القوم» ليسوا دائمًا مرادفًا للنُّصرة؛ إنما هو اسمٌ يُكسبه العُرفُ والقيمُ مضمونَه. حين تصون الأعراف «الجوار» و« حُرمة الضيف» و« حقّ الطريق» و«الدخالة» و«الفزعة» يُصبح القوم درعًا مانعًا؛
وحين تُسيَّس هذه الأدوات أو تُختزل في الولاء الأعمى للسلطة أو المكسب، يتحوّل «القوم» إلى غطاءٍ لانحراف النخبة، ويغدو «النادي» مساحةَ تقنينٍ للمنكر بدل أن يكون ساحةً للمروءة—وذلك عينُ ما وصّفته آية العنكبوت في قلب مشهد لوط عليه السلام حين صار المنكر «ثقافة نادي»: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ…﴾ (العنكبوت: 29).

الجديد المنهجي هنا أن نقرأ «القوم» كمصفوفة انتقالٍ بين أربع حالات: «قومٌ مُرشَدون» تُهيمن عليهم صفاتُ العقل والتعارف والتناصر بالحق؛ و« قومٌ مُستدرَجون» يختطفهم «الملأ» بالدعاية مع بقايا مناعة؛ و« قومٌ مُسرفون» يشرعنون الفساد في النادي والسوق والقضاء؛ و« قومٌ مُجاهدون» يربطون القوة بالحبّ الإلهي والعدل.

هذه المصفوفة تُفيد عمليًّا في البحث الميداني: يمكن رصد موقع أي جماعة على هذا الطيف عبر مؤشّرات قابلة للملاحظة مثل درجة احترام الخصم وحرمة الضيف، وضبط السخرية والتنابز في الخطاب العام (الحجرات: 11)، وسلوك النادي والمنتدى، ومكانة المصلحين في الهرم الاجتماعي: هل يُستمع إليهم أم يُطردون بعبارة «أخرجوا آل لوط…» (النمل: 56)؟ وبمقدار ما يرتفع منسوب «يا قومِ» الحانية في المجال العام ينخفض منسوب «قومه يهرعون» العدوانية (هود: 78).

بهذا الاتساع تغدو «القوم» أداةَ تحليلٍ تتقاطع فيها السياسة بالدين بالعسكر بالاجتماع: اسمٌ يلتقط لحظة المجتمع بين كونه «مادة أمة» قابلة للعهد وبين كونه «عصبية بلا قيم». فإذا عُقِد له العهد والوجهة صار أمّة، وإذا هُجِر مرجعُه الأعلى—القرآن الكريم—تَحوّل من حاوية مروءة إلى جهاز عدوان، وتلك عتبةُ السقوط التي تُنذر بها السنن.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :