(ح12) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية من 1907 – 1926
د. أحمد عويدي العبادي
02-10-2025 09:31 PM
ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما ؟
22 = رسالة عن الحويطات والثورة (أواخر 1916–1917) /كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول: "لقد تغير وجه الجنوب الأردني منذ اندلاع الثورة (ثورة 1916م). لم يعد الحديث يدور عن إتاوات القبائل أو صداماتها المعتادة، بل عن راية جديدة يرفعها العرب. كنت في طريق بين معان والعقبة، فرأيت خيام الحويطات وقد رفعت عليها أعلام بيضاء وحمراء، تختلف عن راياتهم القديمة. قال لي أحدهم: (هذه راية الشريف، ونحن معها)."
"الشيخ عودة أبو تايه استقبلني في مضارب قومه. كان يتحدث بحماس عن الثورة، وعن ضرورة طرد الأتراك من البلاد. قال: (لقد أخذوا منا أراضينا وضرائبنا، والآن حان الوقت لنأخذ حقنا بأيدينا). بدت في كلماته روح جديدة لم ألمسها من قبل، روح لم تعد تكتفي بالدفاع عن المراعي، بل تسعى لبناء مستقبل أوسع."
"في الأسواق، كان الناس يتناقلون أخبار انتصارات العرب في الحجاز. قوافل الحويطات التي اعتادت أن تكون مجرد بدو رحّل صارت الآن جزءًا من حركة عسكرية منظمة، تحمل السلاح والذخائر وتؤمن الطريق للثوار. بدا أن القبيلة تحولت من قوة محلية إلى ذراع في مشروع أكبر."
"الجنود العثمانيون انسحبوا من بعض المحطات، أو بقوا فيها محاصرين ينتظرون مصيرهم. سمعت من أحد البدو يقول: (القطار صار بلا فائدة. نحن نتحكم في الصحراء، وهم لا يملكون إلا الحديد). كان ذلك كأنه إعلان عن موت نفوذ الدولة في هذه الأرض."
"كتبت في دفتري: (الثورة غيرت معادلة الأردن. الحويطات صاروا قادة الجنوب، وبني صخر يراقبون بحذر في الشمال، والأزرق ومعان أصبحا عقدًا في شبكة حرب جديدة. من لم يفهم دور القبائل، فلن يفهم كيف تنتصر الثورة)."
23 = رسالة عن العقبة بعد التحرير (1917–1918) /كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول: "دخلتُ العقبة بعد أشهر من سقوطها بيد قوات الثورة. البلدة الصغيرة على البحر الأحمر تغيرت ملامحها: لم تعد تحت حراسة الجنود العثمانيين، بل صارت تعجّ برايات الثورة ورجال القبائل الذين يفدون إليها من كل صوب. بدا المشهد كأنه ميلاد جديد لمكان ظل طويلًا تحت نفوذ الأتراك."
"كان الحويطات أوّل من لفت انتباهي. لقد رسخوا حضورهم هنا، فهم الذين قادوا الهجوم بقيادة الشيخ عودة أبو تايه، وهم الذين يسيطرون الآن على الميناء والطرق المؤدية إليه. أحد شبابهم قال لي: (العقبة صارت لنا، ونحن صرنا للعرب). كانت الكلمات بسيطة، لكنها حملت يقينًا بدورهم المركزي في الثورة."
"رأيت أيضًا رجالًا من بني عطية وبني صخر قدموا لدعم الثورة أو للتجارة. كانوا يجلبون الجِمال والمؤن، ويؤمّنون الطريق شمالًا نحو معان. بدا واضحًا أن الثورة وحدت بين قبائل / (أي قبائل الأردن) لم تكن تجتمع من قبل إلا على صراع أو هدنة مؤقتة."
"في الميناء، كانت سفن بريطانية صغيرة ترسو محمّلة بالعتاد، وتفرغ شحناتها تحت إشراف الثوار. رأيت ضباطًا أوروبيين يتحدثون مع شيوخ القبائل، يضعون الخرائط ويتفقون على خطط. أدركت أن العقبة صارت همزة وصل بين البحر والبادية، بين الغرب والشرق."
"كتبت في دفتري: (العقبة ليست مجرد بلدة محررة، إنها بوابة الثورة إلى الشمال. من هنا ستتحرك القوافل والجيوش، ومن هنا سيصعد العرب إلى مسرح أكبر. لقد صارت هذه القرية الصغيرة مفتاحًا لمستقبل الأردن والجزيرة معًا)."
24 = رسالة عن معان والبلقاء أثناء تقدم الثورة (1918) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول: "من العقبة تحركت قوافل الثورة شمالًا. كانت الوجهة معان أولًا، تلك البلدة التي طالما كانت عقدة في الطريق بين الحجاز والشام. الآن أصبحت معسكرًا للثوار، ومركزًا يجتمع فيه رجال القبائل مع الضباط العرب والأوروبيين. كانت الخيام تملأ أطرافها، والرايات العربية ترفرف فوقها."
"في السوق سمعت الباعة يتحدثون بفخر عن الثورة. قال أحدهم: (من كان يظن أن معان ستغدو قلب العرب؟). ورأيت رجالًا من الحويطات وبني عطية يسيّرون قوافل المؤن نحو الثوار. بدا أن البلدة تحولت من محطة عبور إلى قاعدة رئيسة للحركة."
"أما في البلقاء، فقد وصلتها أصداء الثورة سريعًا. بني صخر كانوا يتابعون التطورات عن كثب. التقيت شيخًا منهم، فقال: (نحن نرى أين تميل الكفة. إذا مضت الثورة إلى النصر، فنحن معها. نحن لا نخون أرضنا، لكننا نعرف كيف نختار). كلماته كانت تعبيرًا عن حذرهم ودهائهم في آن واحد."
"الجنود العثمانيون الذين انسحبوا من الجنوب كانوا يتجمعون في محطات متفرقة، لكنهم بلا روح. سمعت أحدهم يقول: (القطار صار بلا طريق. نحن محاصرون بين الصحراء والثوار). لقد كان انهيار النفوذ العثماني واضحًا للعيان."
"كتبت في دفتري: (إن معان والبلقاء أصبحتا وجهين لمعادلة جديدة: الأولى قاعدة الثورة، والثانية مرآة لموقف القبائل. ومن يقرأ حركة الثورة في الأردن، سيجد أن القبائل هي الميزان الحقيقي، وليست الجيوش)."
25 = رسالة عن صدى دخول دمشق (أواخر 1918) /كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول: "وصلت أخبار دخول العرب إلى دمشق كالصاعقة في مضارب القبائل بالأردن. لم يعد أحد يتحدث عن ضعف الثورة أو عن احتمال فشلها؛ الكل صار يتحدث عن المستقبل وما سيأتي بعد سقوط العثمانيين."
"في البلقاء، رأيت رجال بني صخر يتفاخرون بأنهم كانوا جزءًا من هذا التحول. قال لي أحدهم: (اليوم دمشق، وغدًا كل بلاد الشام للعرب). كانت الثقة في كلامه أقوى مما سمعت من قبل، وكأن النصر قد منحهم شرعية جديدة."
"أما الحويطات في الجنوب، فقد بدوا وكأنهم أصحاب الفضل الأول. كانوا يقولون: (من العقبة بدأت الثورة، ومن رم عبرت الجيوش، ونحن الذين فتحنا الطريق). لقد تحول خطابهم من لغة الدفاع عن المراعي إلى لغة صناعة التاريخ."
"في معان، كان المشهد مختلفًا قليلًا. البلدة غصّت بالثوار والقوافل، لكن الناس كانوا يتساءلون عن اليوم التالي: من سيحكم؟ هل ستكون هناك دولة عربية حقًا أم سيأتي نفوذ جديد من الغرب؟ سمعت شيخًا من العدوان يقول: (الثورة انتهت، لكن الحرب الكبرى بدأت)."
"كتبت في دفتري: (أصداء دمشق وصلت إلى الأردن قبل أن يصل الثوار أنفسهم. لقد تغيرت المعادلة: لم تعد القبيلة وحدها صاحبة الكلمة، بل دخلت إلى الساحة فكرة الأمة. ومع ذلك، فإن مستقبل الأردن سيظل رهينًا بموازين القبائل، فهي التي تحرس الطرق، وهي التي تحدد ولاء الناس)."
26 = رسالة عن الأردن بعد الثورة (1919) * كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول: "الأردن لم يعد كما كان قبل أعوام قليلة. انتهى عهد العثمانيين، وجاءت رايات العرب إلى الساحة، لكن القبائل لم تفقد مكانتها. ما زال لكل شيخ سلطته، وما زال لكل قبيلة مجالها الذي تحرسه بقوة السلاح والعرف."
"في البلقاء، اجتمعت مع رجال من بني صخر. كانوا يتحدثون عن الدولة العربية الجديدة، لكن بلهجة متحفظة. قال شيخهم: (نحن مع العرب ما داموا يعترفون بنا. فإذا أرادوا أن يحكموا دون أن يسمعوا صوتنا، فلن يجدوا منا إلا ما وجد الأتراك). كانت كلماته تحذيرًا صريحًا بأن سلطة الدولة لن تستقر إلا برضا القبيلة."
"أما الحويطات في الجنوب، فقد بدوا أكثر ثقة بأن الثورة أعطتهم مكانة لا ينازعهم فيها أحد. أحد شبابهم قال لي: (من رم إلى العقبة طريقنا، ونحن الذين فتحناه للثوار. إذا نسينا هذا الفضل، فلن نسمح لأحد أن ينساه). كانت كلماته تحمل شعورًا عميقًا بأنهم شركاء في تأسيس النظام الجديد."
"في الأزرق، لاحظت أن القلعة عادت لتصبح مقرًا لحامية صغيرة، لكنها لم تفقد دورها القبلي. القبائل ما تزال تعقد اجتماعاتها هناك، وكأنها تقول: (الماء لنا، والقلعة لنا، أما الدولة فلتجلس معنا ضيفًا لا سيدًا)."
"كتبت في دفتري: (إن الأردن في هذه اللحظة مرحلة انتقالية. القبائل ترى نفسها صانعة الثورة وحارسة الأرض، والدولة الناشئة تريد أن ترسخ سلطتها. الصراع بين الاثنين لم يُحسم بعد، وربما لن يُحسم إلا إذا وُجد قائد يجمع بين شرعية الثورة وقوة القبيلة)."
انتهت (ح12) وتليها (ح13) وهي مواصلة نشر برقيات أخطر جاسوسة انجليزية.
* ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر
د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي)
دكتوراة من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م