صفحة من كتابي (علم الاقتصاد القرآني)
د. أحمد عويدي العبادي
11-10-2025 11:54 AM
هنا صفحة من مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأودع في القرآن الكريم مناهج الهداية للروح والعقل والمجتمع والدولة، فكان كتابًا شاملًا للإنسان في دنياه وأخراه، منه تستمدّ الشرائع أصولها، ومنه تنبثق العلوم والمعارف التي ترشد المسيرة الحضارية.
إن مشروعنا الفكري الجديد «علم الاقتصاد القرآني» ليس خروجًا عن مشروعنا السابق «علم الاجتماع القرآني»، بل هو امتدادٌ له وتكامل معه، ينهضان معًا كجناحين لفكرٍ إسلامي متجدد قادر على أن يقدّم رؤىً علمية أصيلة في مواجهة النظريات الغربية التي احتكرت الساحة الفكرية لقرون طويلة. إننا نعلن في هذا الكتاب أن الاقتصاد في القرآن الكريم ليس فرعًا ثانويًا ولا مجرد توجيهات أخلاقية، بل هو علمٌ متكامل قائم على سنن الله في المال، والرزق، والتوزيع، والعدالة، والتنمية، والإعمار.
لقد استحوذ على الفكر الاقتصادي الغربي منظّرون كبار مثل: آدم سميث، وكارل ماركس، وجون كينز، وميلتون فريدمان، وهايك وغيرهم، ممن صاغوا مدارس اقتصادية متباينة بين الرأسمالية والاشتراكية والنيوليبرالية. لكننا في هذا المشروع لا نقف موقف التابع ولا المقلِّد، بل موقف الندّ والمُحاوِر، لنقدّم نظريات اقتصادية قرآنية أصيلة تُحاكم تلك المدارس وفق معيار الوحي الإلهي والسنن القرآنية، وتستنبط من النصوص المباركة ما يضع الاقتصاد في موضعه الصحيح: وسيلةً لإعمار الأرض وصيانة العدالة الاجتماعية، لا أداةً للهيمنة والاستغلال.
إنني – د. أحمد عويدي العبادي – أرى أن كتابنا هذا ليس مجرد جهدٍ بحثي أكاديمي، بل هو مشروع حضاري يطمح إلى إعادة بناء علم الاقتصاد على أساس التوحيد، بحيث يكون المال أمانةً في يد الإنسان، لا غايةً بذاتها، ويكون الغنى والفقر ابتلاءً ومسؤولية، لا حظوظًا عمياء. وهو مشروع يسعى إلى إبراز أن الزكاة والوقف والإنفاق والعدل في الميراث ليست أحكامًا فقهية جزئية، وإنما هي ركائز لنظام اقتصادي بديل قادر على مواجهة تحديات العولمة والأسواق العابرة للقارات، كما أنه يستند إلى مفهوم قرآني عميق يربط الرزق بالقدر، ويجعل العدالة الاقتصادية جزءًا من سنن الله في الاجتماع الإنساني.
هذا التمهيد هو إعلانٌ واضح بأننا لا نتعامل مع النص القرآني بوصفه مرجعًا وعظيًا فحسب، بل بوصفه مصدرًا لنظريات اقتصادية راسخة، تحمل في طياتها القدرة على أن تقف في مواجهة المدارس الغربية، بل وتتفوق عليها لأن نظريتنا تقوم على رؤية شمولية تربط بين الروح والمجتمع والدولة، وتوازن بين الفرد والجماعة، وبين الدنيا والآخرة.
إننا نرجو أن يكون هذا الكتاب، بمجلداته وفصوله، إبداعًا فكريًا إسلاميًا وعالميًا، يضيف إلى المكتبة الإنسانية رؤية جديدة، تُسهم في إصلاح مسار الفكر الاقتصادي العالمي، وتفتح أمام الباحثين آفاقًا رحبة لفهم الاقتصاد في ضوء القرآن الكريم، بعيدًا عن أسر النماذج الغربية، وقريبًا من جوهر الرسالة الإلهية.
وإنّني أرى أنّ علم الاقتصاد القرآني ليس علماً محصوراً في المعاملات المالية ولا في سوق البضائع ورأس المال، بل هو إطار كوني ينظر إلى المال باعتباره أداةً من أدوات العمران، ومظهرًا من مظاهر الاستخلاف، يختبر به اللهُ عباده في مدى التزامهم بالعدل والرحمة.
فالاقتصاد في التصور القرآني ليس مادياً صرفاً، بل روحياً وأخلاقياً بقدر ما هو إنتاج وتوزيع. وهو بهذا يتجاوز قصور المدارس الوضعية التي حصرت الاقتصاد في أرقامٍ وحساباتٍ جامدة، وأهملت روح الإنسان ومئآلاته الأخروية.
إن مشروعنا هذا يطمح إلى تشييد علمٍ بديل، لا يقوم على ردود الأفعال تجاه الغرب، بل على استنباط السنن القرآنية الكامنة في النصوص، والتي صاغت عبر التاريخ مجتمعاتٍ متوازنة حافظت على وحدة الروح والمادة، وجمعت بين الإيمان والعمل، وأقامت نظامًا اجتماعيًا راسخًا. ومن هنا فإنّنا لا نسعى إلى منافسة آدم سميث أو ماركس أو كينز أو هايك في ساحاتهم وحدها، بل إلى تجاوزهم جميعًا عبر تقديم رؤية قرآنية تجعل الاقتصاد مرتبطًا بمقاصد الخلق، وبالعدل الذي هو عماد الشرائع، وبالتكافل الذي يحفظ المجتمعات من التصدع والانهيار.
إنّنا نرى أنّ الرزق في القرآن الكريم مفهوم أشمل من الدخل أو الإنتاج، فهو مرتبط بقدَر الله، وموزون بميزان الحكمة الإلهية: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات: 22). وهذه الآية وحدها تفتح أمام الباحثين آفاقًا لفهم الاقتصاد ليس كمجرّد تدبير بشري، بل كحقل يتفاعل فيه التدبير الإلهي مع الجهد الإنساني. وهنا يظهر التوازن الفريد: فالأرزاق مقدّرة، ولكن على الإنسان أن يسعى، والزكاة والوقف والإنفاق ليست مجرد شعائر، بل أدوات لإعادة توزيع الثروة وضبط حركة المال حتى لا يتحوّل إلى سلعة استعباد، كما قال تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7).
كما أن الاقتصاد القرآني يطرح نفسه كنظامٍ حضاري متكامل يوازن بين الفرد والجماعة. فهو يحفظ حق الفرد في التملك، ولكنه لا يسمح له أن يستغل حاجات الآخرين ليستعبدهم. وهو يعترف بحق الجماعة في العدل والإنصاف، ولكنه لا يذيب شخصية الفرد كما فعلت بعض النماذج الاشتراكية. بل يخلق معادلة دقيقة، تجعل الفرد مسؤولًا أمام الله وأمام المجتمع، وتجعل المال أداةً لتحقيق الصلاح لا أداةً لإشاعة الفساد.
إننا – ونحن نخطّ هذا المشروع – لا نزعم أننا نأتي بجديدٍ خارج النص القرآني، وإنما نعيد قراءة النصوص في ضوء ما آلت إليه الحضارة المعاصرة من أزماتٍ اقتصادية كبرى: من الانهيارات المالية، إلى التفاوت الطبقي، إلى تحوّل الإنسان إلى سلعة في سوق العمل. ونُعلن أن القرآن الكريم يقدّم البدائل الكبرى، لا في صورة نظريات مؤقتة، بل في صورة سنن إلهية ثابتة، تنتظر من يعيد اكتشافها ويصوغها في قوالب معاصرة.
إنّ الاقتصاد القرآني ليس فقط مشروعًا علميًا أو فكريًا، بل هو رسالة أمةٍ تريد أن تبرهن أن لديها القدرة على إنتاج المعرفة، لا على استهلاكها فقط. إنه مشروع لإعادة الاعتبار للقرآن الكريم كمرجع علمي حضاري، قادر على أن يقود الإنسانية من جديد، كما قادها أول مرة يوم نزل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ (فاطر: 39).
بهذا الطموح، وبهذه الرؤية، نفتتح نصوص هذا العمل، سائلين الله أن يجعله لبنةً في صرح العلم القرآني، وأن يكون صدًى عالميًا يسمعه الباحثون في الشرق والغرب، ويجدون فيه البديل الفكري والعملي لما أرهق الإنسانية من نظم اقتصادية متوحشة.
إن المنهج الذي أعتمدُه في هذا الكتاب هو المنهج التحليلي الاستنباطي، القائم على الغوص في النص القرآني الكريم لا للوقوف عند ظاهره اللفظي وحده، بل لاستكشاف أعماقه ودلالاته الكامنة، ولإخراج أحكامٍ ومعانٍ لا ترد صراحةً، وإنما تُفهم بالتأمل في السياق، وربط الآيات بعضها ببعض، ومقارنة النصوص القرآنية بمسيرة التاريخ الإنساني، وسنن الاجتماع البشري. هذا المنهج لا يقف عند النقل أو التفسير السطحي، بل يسعى إلى استخراج ما لم يُكتشف بعد من كنوز الوحي، ليتحوّل النص إلى قوة إبداعية مُجدِّدة قادرة على إنتاج نظرية اقتصادية أصيلة.
ومن هنا فإنّني أضع منذ البداية مقارنةً صريحة بين ثلاثة نماذج كبرى أثّرت في الفكر الاقتصادي العالمي:
أولًا: النموذج القرآني، وهو النموذج الذي يربط الاقتصاد بالتوحيد، ويجعل المال أداةً لتحقيق العدالة والإعمار، لا غايةً للهيمنة والاستغلال. إنه نموذج يُحاكم السلوك الاقتصادي بمعايير الأخلاق والإيمان، ويوازن بين حق الفرد وحق الجماعة، ويجعل الزكاة والوقف والإنفاق آليات دائمة لضبط حركة المال.
ثانيًا: النموذج التوراتي/اليهودي، الذي قدّم رؤية مغايرة، حيث ارتبط المال فيه غالبًا بالاحتكار، وبنظامٍ يُشرعن الربا والتفاوت، ويجعل الثروة علامةً على الاصطفاء الديني أو القومي. فالمجتمع التوراتي أعطى المال قيمةً مطلقةً في حفظ الجماعة، حتى وإن كان ذلك على حساب العدالة مع الآخرين، فجعل من الاقتصاد أداةَ فرزٍ وتمييز، لا أداة تكافل وتوازن.
ثالثًا: النموذج الغربي الحديث، الذي انطلق من ميراثٍ توراتي لكنه أعاد صياغته عبر فلاسفة التنوير والثورة الصناعية. فآدم سميث جعل «المصلحة الفردية» محرّك الاقتصاد، وماركس حوّل «الصراع الطبقي» إلى مفتاح التفسير، وكينز قدّم «التدخل الحكومي» كحلّ للأزمات، وفريدمان وهايك أعادا الاعتبار لـ«حرية السوق». غير أن القاسم المشترك بين هذه المدارس جميعًا هو فصل الاقتصاد عن الأخلاق، وفصله عن البعد الغيبي والروحي، حتى صار المال سيدًا لا خادمًا، وغدت الأسواق آلهةً جديدة تُعبد من دون الله.
إنّ المقارنة بين هذه النماذج الثلاثة تكشف منذ البدء عن طبيعة المواجهة الفكرية التي يخوضها مشروعنا. فنحن لا نكتب في فراغ، بل نواجه إرثًا توراتيًا أضفى على المال قداسةً عرقية، ونواجه منظومات غربية أضفت على المال قداسةً دنيوية، ثم نأتي نحن لنجعل الاقتصاد عائدًا إلى قدسيته الحقيقية: قدسية العدل، والإعمار، وصيانة المجتمع من الفساد.
بهذا يعلن كتابنا أنّ علم الاقتصاد القرآني ليس مجرد مبحث ديني، ولا ترفًا فكريًا، بل هو مشروع لإعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي على أساس التوحيد. وهذا وحده كفيل بأن يجعل القارئ، منذ الصفحة الأولى، مدركًا أن ما بين يديه ليس دراسةً تقليدية، بل هو تحدٍّ معرفي للنماذج المهيمنة، ومحاولةٌ لإعادة بناء العالم من جديد على ضوء الوحي الإلهي.
ومما يعزِّز ضرورة هذا المشروع أنّ النُّظم الدينية الكبرى – مع تقديرنا لها واعترافنا بما فيها من قيمٍ أخلاقية – لم تُنشئ، في بنيتها الأصلية، منهاجًا اقتصاديًا مُحكَمًا يكرِّم الإنسان بوصفه خليفةً ومسؤولًا كما فعل القرآن الكريم. إننا هنا لا نُصادر حقائق التاريخ، بل نقارن من حيث «البنية المعيارية» الملزمة للمجتمع والدولة لا من حيث فضائل الأفراد العابرة.
فـالمسيحية في أصل خطابها ركّزت على الخلاص الروحي ومحبة القريب، وقدّمت مثلًا نبيلة عن العطاء والتجرّد، وفي تراثها إشاراتٌ إلى المشاركة والصدقة والعمل الصالح. غير أنّها لم تُقِم – نصًا مُؤسِّسًا – منظومة توزيعٍ مُلزِمة تُعيد هندسة الثروة على مستوى المجتمع والدولة. ولذا تُركت المسائل الاقتصادية الكبرى لسلطان الأعراف والسلطات الزمنية، ثم لحقبٍ لاحقة صاغت «تعاليم اجتماعية» كنسية واجتهادات محلية؛ بقيت في معظمها إرشادية لا تُعادِل في إلزامها وبنائها فرائض الزكاة والوقف والنفقات الواجبة في الشريعة الإسلامية. إنّها فضائل عظيمة، نعم، لكنها ليست هندسةً تشريعيةً مُحكَمة تضبط حركة المال بين الطبقات.
وأما البوذية، فانصرفت – في جوهرها – إلى معالجة معاناة الإنسان عبر إطفاء الرغبة وكسر التعلّق. وهي رؤية أخلاقية سامية في تهذيب النفس، لكنّها حين تُترجم اقتصاديًا تميل إلى تصوّرٍ زاهدٍ فردي لا يقدّم آليات توزيعٍ مُؤسَّسية، ولا يضع سياسةً مالية تُسيِّر الدولة في إدارة الضرائب والتمويل العام والعدالة التوزيعية. ولذا يبقى «الاقتصاد» فيها سلوكًا فرديًّا ممدوحًا أكثر منه نظامًا اجتماعيًا مُلزِمًا.
وفي الهندوسية، تتبدّى أخلاق العطاء و «الدارما» وفضائل الخدمة، لكنها تتقاطع تاريخيًا مع بنىٍ طبقية/فئوية صلبة جعلت الوصول إلى الموارد وتداولها محكومًا بسلالمٍ اجتماعية؛ فاختلطت «الأخلاق» بـ«التراتبية»، وغابت المعادلة المؤسّسية العادلة التي تُساوي بين الناس في أصل الكرامة الاقتصادية. وقد حفظ تراثها آراءً في المعاش والتجارة، لكنها لم تؤسّس فقهًا مُلزِمًا عامًّا يضمن للمجتمع كلِّه حقّ السائل والمحروم كما نصّ القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج: 24–25).
وأما الصابئة وبعض الديانات الوثنية القديمة، فقد ارتبطت اقتصاداتها غالبًا بـ«اقتصاد المعبد» أو «اقتصاد القصر»، حيث تتجمع الثروة في مركزٍ طقوسيٍّ أو سلطانيّ، وتُعادُ تعبئتها عبر الضرائب والقرابين والجبايات، مع غياب مقاصد العدالة التوزيعية بصورتها المعيارية العامّة. إنّها اقتصادات امتياز، تُشرعن تكديس الثروة عند طبقةٍ كهنوتية أو حاكمة، وتفتقد إلى نصٍّ مُؤسِّس يمنع «تحوّل المال إلى دولةٍ بين فئةٍ دون أخرى»، بينما يضع القرآن الكريم قاعدة قاطعة: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7).
بهذا الميزان المقارن، يتمايز النموذج القرآني؛ فهو لا يكتفي بالموعظة الأخلاقية، بل يبني هندسةً تشريعيةً مُلزِمة: يحرِّم الرِّبا تحريمًا صريحًا، مُعلِنًا الحرب على نظامه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (البقرة: 279)، ويقرِّر القاعدة الكونية: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: 276). حيث يُحوِّل الزكاة من خُلُقٍ فردي إلى مؤسّسة توزيعية واجبة، لها مصارف محدَّدة تضبط الدورة المالية وتمنع الانسداد الطبقي. ويجعل الوقف آليةً دائمة للاستدامة الاجتماعية والمعرفية، فيحوِّل الفائض الخاص إلى منفعةٍ عامة مُتعاقبة.
كما يجرِّم التعدّي المالي ويشترط الرضا والشفافية في المبادلات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29). ويذمّ الاكتناز الذي يُعطّل الحركة الاقتصادية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34). ويُهذِّب الاستهلاك والإنفاق بمنظومة وسط: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ (الإسراء: 26–27). ويَصِل كلّ ذلك بمقصد الاستخلاف والعمران: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، ليغدو الاقتصاد وظيفةً حضارية لا مجرد تبادل منافع.
لذلك أؤكِّد – بمنهجي التحليلي الاستنباطي – أنّ تفوق النموذج القرآني لا يقوم على «الأخلاق» وحدها، ولا على «القانون» وحده، بل على التحام الأخلاق بالقانون داخل بنيةٍ توحيدية تجعل المال خادمًا لمقاصد العدل والرحمة، وتحوِّل العبادة إلى سياساتٍ عمومية: فالزكاة سياسةُ توزيع، والوقف سياسةُ تنمية، وتحريم الربا سياسةُ استقرار مالي، و «حقّ السائل والمحروم» سياسةُ عدالة اجتماعية. هنا تظهر العبقرية المقدسة في نصوص القرآن الكريم؛ إذ ينقل الفضيلة من حيّز الندب الفردي إلى هندسة مؤسسية مُلزمة تصنع مجتمعًا قادرًا على امتصاص الصدمات، وتقليص الفوارق، وتحرير الإنسان من استعباد المال والديون.