الحرب الاقتصادية بين حَدَد بن بَدَد وبني إسرائيل
د. أحمد عويدي العبادي
14-10-2025 09:51 AM
* من الحصار إلى ازدهار الاقتصاد الأدومي - صفحة من كتابي / المملكة الاردنية الأدومية، قبل 3300 سنة
لم تقتصر مواجهة الملك الأردني الأدومي حَدَد بن بَدَد لبني إسرائيل على الميدان العسكري وحده، بل امتدت لتصبح واحدةً من أقدم الحروب الاقتصادية المسجلة في التاريخ، حيث استخدم الأدوميون سلاح الاقتصاد والحصار الغذائي لإضعاف قوم موسى عليه السلام وإجبارها على التراجع عن محاولة عبور أراضيهم. لقد أدرك حَدَد أن الحرب ليست دائمًا في السيوف والرماح، بل في القدرة على التحكم بالموارد والمعابر والأسواق، فحوّل الجغرافيا الأردنية إلى نظام حصارٍ متكامل يمنع عن بني إسرائيل الماء والطعام والإمداد.
حين خرج بنو إسرائيل من مصر، كانوا يحملون معهم كمياتٍ ضخمة من الذهب والفضة والنفائس، إذ يشير الكتاب المقدّس إلى أنهم أخذوا "غنائم المصريين" قبل خروجهم، وهي ثرواتٌ لم تكن حصيلة عملٍ مشروعٍ بل مزيج من المكاسب والتبدلات في الفوضى التي رافقت خروجهم. ومع ذلك، فإن هذه الثروة لم تكن تنفعهم في صحراء التيه، إذ لا تُؤكل النقود ولا تزرع المعادن.
وفي ظل هذا الوضع، فرض حَدَد بن بَدَد عليهم عقوبة اقتصادية ذكية: منعهم من الدخول إلى القرى الأدومية أو شراء المؤن، وقطع عنهم الإمدادات، مما جعلهم يعيشون حالة جوعٍ شديدٍ واحتياجٍ إلى الماء والطعام. عندها تجلّت رحمة الله تعالى بموسى وقومه، فأنزل عليهم المنّ والسلوى في الصحراء — طعامًا سماويًا يمدّهم بالحياة دون الحاجة إلى التجارة أو الزراعة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (البقرة: 57).
إلا أنّ النفس البشرية بطبيعتها لا تطيق الرتابة، فسئم بنو إسرائيل من هذا الطعام السماوي الذي لا تعب فيه ولا تنوّع في مذاقه، وتذمّروا من رزق الله الذي جاءهم بغير كلفة، فقالوا كما حكى الله عنهم في القرآن الكريم:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ (البقرة: 61).
وهنا تتجلّى دقّة التعبير القرآني في قوله تعالى ﴿اهبطوا مصرًا﴾، إذ لا يُقصد بها مصر القديمة التي خرجوا منها، بل كلّ منطقةٍ خاضعةٍ لنظامٍ اقتصاديٍ حضريٍ يمكن شراء الطعام منها، وعلى رأسها القرى والأسواق الأدومية القريبة من موقعهم في الصحراء. فالكلمة في لسان العرب تشير إلى كلّ مدينةٍ ذات عمرانٍ منظمٍ، لا إلى مصر الجغرافية وحدها.
وقد فسّر بعض المفسرين المتقدمين هذه الإشارة بأنها إذنٌ من موسى عليه السلام بإبرام اتفاقٍ مؤقتٍ مع ملك الأدوميين حدد بن بدد، للسماح لبني إسرائيل بشراء الطعام مقابل المال، أي ما يشبه "اتفاقية توريدٍ غذائيٍّ" محدودة النطاق. وهكذا تحوّل الحصار إلى فرصة اقتصادية كبرى لمملكة أدوم، إذ تدفقت إليها الثروات التي كانت بحوزة بني إسرائيل، فازدهرت القرى الأدومية، وانتعشت الأسواق، وارتفع الطلب على المنتجات المحلية من القمح والعدس والبصل والفوم (الثوم أو الحبوب بحسب التفسير)، فازدهر الاقتصاد الأردني القديم في واحدةٍ من أوائل صور التحفيز التجاري عبر الأزمات.
بهذا الشكل، نجح الملك العظيم َحدَد بن بَدَد في أن ينتصر دون أن يُشهر سيفًا، فحوّل الحصار إلى صفقة، والتهديد إلى استثمار. وأصبح المال الذي جناه بنو إسرائيل في مصر ثروةً للأردن الأدومي، يدور في الأسواق ويُعيد توزيع الموارد داخل الممالك الأردنية الخمس المتحالفة (مؤاب وعمون وبيريا وباشان بالإضافة الى ادوم نفسها).
ومن منظور علم الاقتصاد القرآني، فإن هذا الموقف يُظهر كيف أن التدافع بين الأمم لا يكون دائمًا بالسلاح، بل أيضًا بتبادل المنافع وفق ميزان السنن الإلهية، حيث قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ (الزخرف: 32).
لقد أصبحت أدوم بعد تلك الحادثة مركزًا تجاريًا حيويًا، مضافا الى انه كانت تعبره القوافل المتجهة من الحجاز ومصر إلى بلاد الشام، واستفادت الممالك الأردنية الأخرى — مؤاب وعمّون وباشان وبيريا — من هذا الازدهار عبر نظام الضرائب والعشور المفروضة على القوافل والبضائع. وكان ذلك بدايةً لظهور نظام اقتصادي أردني متكامل يقوم على الزراعة والتجارة والربط بين الشمال والجنوب، وهو النظام الذي مهّد لاحقًا لنهضة الممالك الأردنية الكبرى في القرون اللاحقة. وبخاصة زمن الانباط.
ومن جهةٍ أخرى، كشفت تلك الحادثة عن الفارق الحضاري بين الشعب الإسرائيلي التائه والأمة الأردنية المستقرة: فبينما كان بنو إسرائيل يستهلكون ما لا ينتجون، كان الأدوميون يزرعون ويُتاجرون ويُديرون مواردهم بعقلٍ اقتصاديٍّ منظم. لقد كانت المعادلة واضحة في ميزان السنن: العمل والعمران أساس البقاء، والتسخط والنكران سبب الزوال.
ومن هنا يمكن القول إنّ الحرب الاقتصادية التي قادها حَدَد بن بَدَد كانت صفحةً مشرقة في التاريخ الأردني القديم، أظهرت نضج القيادة، وحكمة الإدارة، وقدرة الممالك الأردنية على تحويل التحديات إلى فرصٍ، والصراعات إلى موارد. لقد انتصر حَدَد بالحكمة على القوة، وبالعقل على العدد، فخلّد التاريخ اسمه كأول من استخدم القوة الاقتصادية كسلاحٍ حضاريٍّ مشروع في وجه جماعةٍ جاءت بغير إذنٍ، تحمل المال دون رسالة، فاستفاد منها من كان أحقّ بالعمران والمال معا.